شجرة تتشابه وشجرة البرتقال لكنّ طعمها مختلف تماماً ولها اسخداماتها. ومنظر شجرة الخشخاش المتثاقلة من كثرة ثمارها كمنظر شجرة التفاح في جنة عدن يستهوي القلوب لقطف بعضٍ منها.
وشجرة الخشخاش على زاوية المزرعة المسيَّجة قد أثارت شهية قافلة بأكملها من كبيرها إلى صغيرها، فهي تقع على الشارع العام ومحمية بواسطة شيك كملكِّيَةٍ خاصة، ولصاحبها من طيبة القلب الذي لن يمانع لمن تهف نفسه لقطف بعض منها لأنها حقا مُغرية وشهية للنظر، ومع ذلك لم تنجو تلك الشجرة من السطو عليها.
وذات مرة كنا قد مررنا من هناك برفقة صاحب المزرعة وكانت تلك الشجرة أول ما لفت أنظارنا، خصوصاً أن ثمرها يعمّر ويدوم وقتاً أطول من غيره وفي موسم يكون موسم البرتقال قد انتهى وولى. ورغم معرفتنا أنها شجرة خشخاش فبعد الاستئذان سُمحَ لنا أن نقطف ما شئنا ونتذوق طعمها المائل للمرارة. فما أورع طعمها لمن يحبُّ طعم الخشخاش!
وحدث في ذات يوم أن مرَّت تلك القافلة من جانبها والشمس ساطعة وثمر الخشخاش يتلألأ على أغصانها وبين أوراقها الخضراء، فما كان من سائقها إلا وأن أمال السياج بظهر حافلته حتى تمكن راكبي ظهر الشاحنة الصغيرة ومن أعلى الشيك من البدء في خرط الشجرة التي خُيِّلَ لهم أنه شجرة برتقال من غير رحمة ومن دون استئذان من صاحبها أو من من حارس المزرعة التي يشرف عليها ويهتم بها.
ومن حسن الطالع أن طلال حارس المزرعة قد مرّ بذات الوقت من المكان، وجنّ جنونه مما رآه، وكيف لاوهو مؤتمن عليها. فماذا سيقول لصاحبها عندما يزورها ويتفقدها ليقطفها صانعاً منها التطالي البيتية لتوزيعه على الأهل والأصحاب والجيران، فهذا جزء من كرم أبناء بلدنا؟
فكيف كان سيبرر طلال تخريب الشيك بجانبها وثمرها بالكامل قد فُقد؟ ففي لحظة ظهور طلال حدث سجال ومعاتبة في البداية، فلماذا لم يتم الإستئذان بقطف بعض الحبات منها بدلا من هذا الأذى في التعدي على حرمة المكان؟ وانتهى السجال بالعراك بالأيدي حيث تم دُفع طلال على ظهره بعنف فوقع فوق الشيك المتهاوي أصلاً بفعل الحافلة متسبباً في تمزقٍ في عضلات في كتفه. ومن شدة حرص طلال على عدم تأزيم الموضوع وتحوله إلى قضية كبيرة ومشكلة لا تحمد عقباها، وكذلك من خوفه على سقوط بعض الأولاد المتعربشين من على ظهر الحافلة قرر أن يهدئ الموقف وينهيه بأنْ يَصرف تلك القافلة في طريقها رغم ما اقترفته أيدي مستقليها من أذى وتعدّي.
لكنَّ غيظ طلال بعد أن تَمَّتْ مغادرة القافلة لم يسمح له أن تمر تلك الحادثة من دون عمل شيء، فما كان منه إلا وأن أتى بمنشارٍ وقام بلحظة غيظ وغضب وحزنٍ شديد بقطع الشجرة من ساقها، صاباً جام غضبه عليها من حزنه لما حصل وَلِمَا تعرّضَ له هو شخصيا من أهانة وتعدٍ كمؤتمن على الموقع، ولو لم يحتكم طلال للعقل ويضبط نفسه لتفاقمت الأمور وتعقدت وأصبحت قضية كبيرة لا تحمد عقباها.
وفي أول زيارة لصاحب المزرعة وعلمه بما حدث ألمَّ به حزن وغضب شديدين، وعتبَ على طلال لما قام بفعله بالاقتصاص من شجرة الخشخاش المزِّينة المدخل، وهي من قام هو بنفسه بزراعتها وأشرف عليها بنفسه حتى غدت معلماً للمكان.
فما ذنب شجرة الخشخاش؟ هل ثمرها كان سبباً في قطعها؟ وهل كان مطلوب منها أن تكون شجرة بلا ثمر؟ وهل كان موقعها بجانب الطريق هو كلًّ ذنبها؟ وهل ما قام به طلال كان صائباً أم خاطئا؟ لست بصدد الحكم، فهناك ردَّات فعل قد تخرج عن التمالك لشدة الإنفعال والحزن خصوصاً وأنّ طلال لم يقدر أن يقتص بمن تعدى عليها، ولكنه لو فعل لكانت الكارثة أكبر، ولتعبيره عن أسفه لما حصل مع شجرة الخشخاش الوادعة قام بقطعها ليس للخلاص منها، بل اعتذاراً منها لما حلّ بها وهو مؤتمن عليها.
فما أروعك يا طلال الشهم بهذه الروح التي قلّ نظيرها اليوم! فأنت نعم الخادم الذي ائتمنه سيده على كرمه، فلما عاد رب البيت وجد طلال الأمين والمخلص الذي لم يَهن عليه أن يتم التعدي على ممتلكات الآخرين، رغم خطأ ما ارتكبه من خطأ جسيم بالإقتصاص من الشجرة من غير ذنب.
ولكن المفرح في الموضوع، أنه بعد فترة قصيرة ورغم قطع شجرة الخشخاش إلا أنها أبت أن تموت، بل من خلال جُرحها القطعي بَزغت فروع خضراء جديدة بدأت تمتد طولاً نحو السماء، لتعود بعد مدهٍ من الزمن شجرة الخشخاش الخضراء الشهية للنظر والمعطية للثمر، مما أدخل السعادة الغامرة لصاحب المزرعة ولنا، بأنّ الحياة تتجدد في تلك الشجرة المقطوعة بعد الحكم عليها بالموت.
وهكذا هي الحياة فهما حاول الشَّر أن ينالَ من قوَّةِ الحياة، فروح الحياة تتجدد وتقوى.