يَحْجِبُ الكثيرون عن الدِين عندما لا يعود يؤدي الغاية والغرض منه. فغاية الدين سامية ووسيلة للتقرُّب من الله وعبادتِه العبادة اللائقة، لا مجرد ممارسة طقوس روتينية قد تفقد بريقها وجوهرها مع الزمن، مقفلةً الباب أمام التفاعل مع معطيات ولغة الحياة الجديدة المتجددة والمتغيرة، لتشكّلَ بذلك جسرَ عبور واقتراب من الجوهر وهو النور الإلهي الذي يضيء عتمة هذا العالم المظلم. وبعكس ذلك تكون طاردةً ومنفِّرَةً للإنسان لانَّها تصبح عديمة الجدوى والفائدة ومقيدة لحرية الإنسان بدلاً من انعتاقه نحو النور ونحو الحرية.
والاقتراب من النور الإلهي يعني السير في طريق الصلاح والبّر والحق. فالله نورٌ ويُريدنا أنْ نعيش معه في النور، وأن لا نرتضي بأعمال الظلمة أو أن نشترك بها بل بالحري أن نوبِّخها ونكشفها بكل جرءة واقدام ولا نسكت عليها. فالتستر على أعمال الظلمة كالساكت عن الشّر فهو سيطان أخرس، وهذا ليس ما وُجدنا لأجله. فاللهُ وضعَ فينا الصوت النبوي "َلْيَجْرِ الْحَقُّ كَالْمِيَاهِ، وَالْبِرُّ كَنَهْرٍ دَائِمٍ." (عا 5: 24)
هذا هو التحدي الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم، وعالما العربي بالتحديد، فأزمتنا أخلاقية وليست شيئاً آخر، ومنها نبعت كل السقطات والخطايا. فقلَّةٌ هم من يقبلون هذا التحدي، وقلة هم من تجد في قلبهم دافع الوقوف والدفاع عن الحق والعدالة لا لسبب مصلحي إلا من أجل الحق والعدل نفسه. ولربما جوهر الدين هو ايقاظ مثل هذه الضمائر في قلوب الناس كما يقول المثل "عش لمبدأ مهم طغى خير من أن نعيش من غير مبدأ". فالحياة أكثر من الطعام كما أن الجسد أكثر من اللباس. فنحن نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل، ونحن نموتُ لنحيا ولتثمر فينا حبةُ السنبلة لتملئ الوادي سنابل. فحياتنا تحمل في ثناياها رسالة السماء ونور الله بأن نحيا لأجل احلال سلام الله وعدله ومحبته على الأرض لتتحقق مشيئته السماوية ويسود ملكوته على الأرض، ومن لا يحمل هذه الرسالة فحياته لا قيمة لها ولا معنى وكالغصن الذي لا يُعطي ثمر، وواجبٌ أن يقطع ويلقى في النار.
لذلك فحياتنا في المجتمع تتضمن العمل لأجل ثلاثة أمور هامة وهي تنبع من نور الله وطبيعته، وهي أن نعمل للصلاح ونجري البر ونشهد للحق. هذه الأرجل الثلاثة لقِدْر الإنسان النوراني المستنير بالنور الإلهي، ولا يمكن أن نعيش بالنور من غيرها، مما يفرز مجتماعات متحضرة إنسانية تسير نحو التقدم والإرتقاء والعلياء والمجد.
فالصلاح أو الأمر الجيد هو أساسي تماماً كما نختار في حياتنا أفضل الأمور وأجودها، فهذه مسطرة حياتنا التي لا يجب أن ترضى بأقل منها وهو اختيار الصالح دائماً حتى لو لم يكن فوق رؤوسنا مراقبا أو مشرفا، فهناك عين الله التي لا تنام.
وأعمال البّر هي ثمر لهذا النور، فالنور يضيء عتمة الليل ويفتّح العقول وينعش القلوب، ولربما عالمنا العربي يحتاج نورَ الله لنرى الأمور من نظرة الله لا من نظرتنا البشرية الضيقة. عندها نرى الله في الإنسان وفي كل إنسان، ونقبل بالإختلاف والتنوع والتعاون على الحياة الإنسانية وحضارتها.
وأما الحق، فثمنه غالٍ، لكنه الحقّ الذي يحرر، وبغير الحق يتفشى الظلم وتسود شريعة الغاب. ولأجل الحق كانت التضحيات الجسام عبر التاريخ، لأنه أسمى قيمة ترفع من قدر الإنسانية وتضعها في مكانها الصحيح.
فإن فقدنا أساس وكيان وجودنا في الأمور الثلاثة وهي الصلاح والبّر والحق فخير لنا لو طُوّق عنقنا في حجر الرحى وطرحنا في لجة البحر.