تطرح الجريمة مسألة السلوك الإنساني في أعلى درجات تعقيده ، وهو سلوك يختلف بحجمه ويتنوّع بأسبابه ، فجرائم الفترة الراهنة تختلف عن جرائم الأمس من حيث خطورتها ومدى أهميتها ونطاق أضرارها وتوسع مجالها ، فجرائم العصر الحالي آخذة بالتزايد أفقياً ورأسياً على نحو يهدد أمن وسلامة المجتمع ، كما وأنها تعرقل حركة نموه الإنتاجي ، وهي بذلك تمثل ظاهرة سلبية لها انعكاساتها على البناء الاجتماعي للمجتمع ، والجريمة ليست شيئاً مطلقاً بدلالة أنها تدل على فعل ثابت وله أوصاف محددة ، ولكنها بالمقابل تمثل شيئاً متغيراً تحدده عوامل كثيرة منها الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية والموقف الذي فرض وقوع الجريمة ، وهي بذلك تتخذ صوراً متعددة تختلف من جريمة لأخرى بحسب طبيعة وأثر الضرر الواقع ( محل الجريمة ) .
إنّ التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها المجتمعات ، ساهمت في إحداث تغيير في القيم المتصلة بالعلم والثقافة والتربية والأخلاق وقيم العمل ومفهوم الإنجاز ، كما شملت القيم المرتبطة بشكل ومحتوى العلاقات الاجتماعية ، وامتدت لتشمل القيم المتصلة بالأنماط الاستهلاكية بين الأفراد ، وهذه التحولات أثرت بشكل مباشر وغير مباشر على الجريمة في المجتمع ، فتنوعت الجرائم الواقعة على الأشخاص كالإيذاء ، و الخطف ، و القتل ، ... إلخ ، والجرائم الواقعة على الأموال كالسرقة ، وإساءة الائتمان ، والتزوير ، والاحتيال ، ... إلخ ، وتمثل بذلك عملية التحول إعادة تشكيل للقيم والسلوك إمّا باتجاه إيجابي نحو الأفضل ، أو بالاتجاه السلبي نحو الأسوأ ، وهي بذلك تعمل على إبراز بعض السلوكيات ، وكذلك على إخفاء بعضها الآخر، كما أنّ للتغييرات الاقتصادية والاجتماعية أثر كبير في إعلاء القيم الفردية والقيم المادية الاستهلاكية ، وبالتالي فهي تؤثر على أنماط القيم الأخرى مما يجعل المادة قيمة عُليا تتوارى أمامها القيم الأخرى .
إنّ الكشف عن الدلالة الدينامية للجريمة في المجال الاجتماعي ، يُظهر أنّ السلوك أياً كانت الصورة التي يظهر بها هي محصلة لتفاعل عدد معين من القوى أو الموجهات ، حيث تمثل علاقة المجال الاجتماعي بالسلوك مدى إمكانية الحركة في اتجاه معين أو عدم الإمكانية ، فالمجال يتألف من أهداف يسعى الأفراد إلى بلوغها عبر ممرات يلزم سلوكها للوصول إلى الأهداف ، وقد يتخلل هذه المسارات أو الممرات حواجز تمثل قواعد ومُوجهات للسلوك ينبغي احترامها وعدم التعدي عليها من خلال السعي لبلوغ تلك الأهداف ، وتمثل هذه الحواجز المبادئ الأخلاقية والقانون الواجب احترامه والامتثال له ، والقيم والعادات والتقاليد الواجب مراعاتها ، حيث يجب أن تكون الوسيلة مشروعة لبلوغ الأهداف وتحقيق الطموحات ، وعلى الجهة المقابلة ، فإذا ما تم اختراق أحد الأفراد لبعض هذه الحواجز في سبيل الوصول إلى هدف ما ، فإنه يكون قد ارتكب جريمة قانونية أو مخالفة مسلكية بحسب دلالة ورمزية الحواجز في المجال الاجتماعي .
وبذلك فإذا نظرنا إلى المجال الذي يتم فيه السلوك الإجرامي ، واعتمدنا طريقة توحيد المقامات على أساس أنها مجموعة الموجهات التي تختلف فيما بينها من حيث القيمة ومن حيث طبيعة الإلزام، يتبين مدى التأثير في السلوك لا من حيث النوع ، أمكن لنا أن نحتسب بطريقة منظمة اتجاه المحصلة ودلالتها في حالة السلوك الإجرامي .