في خضم التحولات السياسية والنكبات العربية، برز صوت الأديب رسمي أبو علي (1937–2009) لا بوصفه كاتبًا فقط، بل مذيعًا ومثقفًا استخدم الإذاعة كمنصة للمقاومة الثقافية والاجتماعية، وجعل من صوته الأثيري بيانًا نقديًا لاذعًا، يلامس وجدان المستمع العادي ووعي النخب معًا.
وُلد رسمي أبو علي في بلدة السموع قضاء الخليل عام 1937، وشهد في طفولته مأساة النكبة عام 1948، حيث اضطرت عائلته للنزوح إلى الأردن، مثل آلاف العائلات الفلسطينية. لم تكن الغربة تجربة عابرة في حياته، بل تحوّلت إلى نسيج دائم في وجدانه، ظهرت لاحقًا في قصصه، وأحاديثه، ونصوصه الإذاعية التي حملت عبء المنفى ومرارة اللجوء.
بدأ رسمي أبو علي مسيرته المهنية في الصحافة، فعمل في جريدة الرأي الأردنية، حيث شارك في تحرير الصفحات الثقافية، وبرز كاتبًا جريئًا، يكتب عن المهمّشين والمقموعين، مستخدمًا لغة نقدية مشبعة بالسخرية والرمز. كما شارك في تحرير مجلة "الأفق الجديد"، التي شكّلت منبرًا أدبيًا تقدميًا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
لكن التحوّل الأبرز في مسيرته جاء حين انضم إلى الإذاعة الأردنية، التي كانت آنذاك منبرًا حيويًا للثقافة والفكر. لم يكن دخوله الإذاعة تقليديًا؛ بل كان مدفوعًا برؤية: أن الإذاعة ليست فقط وسيلة إعلام، بل فضاء مفتوح للتغيير.
في الإذاعة الأردنية، قدّم رسمي أبو علي برامج ثقافية وأدبية نقدية الطابع، لم تقتصر على تقديم الأدب، بل استخدمها لكشف الواقع العربي، وتسليط الضوء على القضايا المسكوت عنها. وقد تميزت برامجه بـ:
قراءة نصوص وقصص قصيرة بأسلوب تمثيلي درامي، مشبع بالتلميح السياسي والسخرية الرمزية.
سرديات أدبية بصوت إذاعي محمّل بالرموز، ينتقد فيها النفاق الاجتماعي والقمع السياسي، دون أن يسمّي، لكنه يفضح ببلاغة.
برامج حوارية أو شبه تمثيلية كان يطرح فيها القضايا الاجتماعية والثقافية من خلال شخصيات شعبية وهمية، يعكس عبرها مأزق الإنسان العربي.
ورغم عدم توفر أرشيف كامل لبرامجه، إلا أن مصادر معاصرة ومتابعين للإذاعة يتذكرون بعضًا من أبرز أعماله مثل:
"من هناك... صوت منفي" (عنوان غير رسمي، لكنه شائع): كان يقرأ فيه نصوصًا أدبية مستوحاة من حياة اللاجئين والعمال البسطاء.
قراءات أدبية تمثيلية ضمن فقرات ثابتة في البرامج الثقافية الأسبوعية، بأسلوب يجمع بين الأداء المسرحي والرمزية النقدية.
نوافذ أدبية قصيرة، ظهر فيها صوته يروي قصصًا واقعية على لسان شخصيات تعاني التهميش، تُبث كفواصل بين الفقرات أو كزوايا ضمن برامج أخرى.
لم يكن رسمي أبو علي مجرد مقدم برامج، بل كان يكتب نصوصه بنفسه، ويختار كلماته بعناية، محمّلًا إياها ما لا يُقال في الصحف. تجاوز الرقابة بالرمز، واستخدم الأداء الصوتي لزرع المعنى في ذهن المستمع دون تصريح مباشر. وقد تعرّضت بعض برامجه للإيقاف المؤقت أو الرقابة الصارمة، بسبب انتقاده الصريح للواقع السياسي والاجتماعي.
وكان يرى أن "المذيع المثقف يجب أن يكون ناقدًا، لا ناقلًا، ومحرّضًا على التفكير لا مروّجًا للسلطة". لهذا لم يكن يومًا مذيعًا رسميًا، بل صوتًا حرًا من قلب المؤسسة.
عبر الأثير، كما على الورق، ظل رسمي أبو علي وفيًا للطبقات المسحوقة. لم يكن أدبه نخبويًا، بل شعبيًا عميقًا، كتب عن اللاجئ، والعامل، والمحروم، وسخر من السياسي، والمسؤول، والمتثاقف. في كل ما قدّمه، كان منحازًا للحقيقة، حتى لو دفع ثمنها عزلة أو تهميشًا.
توفي رسمي أبو علي عام 2009 بعد حياة حافلة، دون أن ينال التكريم الذي يستحقه. لكنه ترك خلفه إرثًا نادرًا من الكلمة الحرة، والصوت المختلف، الذي يُعاد اليوم اكتشافه في زمن صارت فيه الحرية أضيق، والحقيقة أغلى.
إن رسمي أبو علي ليس مجرد سيرة كاتب، بل سيرة صوت: صوت اللاجئ، صوت المنفي، وصوت المذيع الذي قرأ القصص كأنها حقائق، وقال الحقيقة كأنها قصة.