في ظل تصاعد التحديات المناخية والاقتصادية والجيوسياسية، لم تعد تقلبات العرض والطلب في الأسواق الزراعية مجرد ظواهر عابرة، بل باتت تمثل عاملًا هيكليًا يتطلب إعادة صياغة شاملة لاستراتيجيات الإنتاج الزراعي. لقد أظهرت جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية، وتغيرات سلاسل التوريد العالمية، مدى هشاشة الأنظمة الغذائية التقليدية في مواجهة الأزمات، وأكدت أن التنبؤ الدقيق بحركة الأسواق واستهلاك المستهلكين لم يعد ترفًا، بل أداة بقاء واستدامة.
أولوية تنظيم الإنتاج في التخطيط الاستراتيجي الزراعي
إن تنظيم الإنتاج الزراعي - نباتيًا كان أو حيوانيًا - لم يعد خيارًا بل ضرورة قصوى ضمن أولويات التخطيط الاستراتيجي. فهو يشكّل صمام أمان يحول دون الانهيارات المتكررة في أسعار البيع الناتجة عن فائض المعروض أو ما يسمى بـ”الاختناقات التسويقية”، والتي غالبًا ما تطيح بجهود المزارعين وتضعف ثقتهم بالسوق والمؤسسات.
ويزداد الأمر أهمية في القطاعات الحساسة كزراعة الخضار والفواكه، ومنتجات اللحوم الحمراء والبيضاء، والألبان ومشتقاتها، حيث التغير في درجة الحرارة أو تأخر الأمطار أو زيادة تكاليف الأعلاف أو الوقود يمكن أن يضرب التوازن بين الكلفة والعائد في مقتل.
من النمط الزراعي إلى التنظيم الكمي الواعي
ما نطرحه هنا ليس العودة إلى السياسات المركزية التقليدية التي كانت تُعرف بالنمط الزراعي، والتي ارتكزت على علاقة تعاقدية مباشرة بين الدولة والمزارع لإنتاج محاصيل محددة بأسعار محددة. بل نقترح نهجًا مختلفًا يقوم على اللامركزية والحوكمة التشاركية، حيث يتحمل المزارع – من خلال مؤسساته التمثيلية كالاتحاد العام للمزارعين، والجمعيات التخصصية، والاتحادات النوعية – مسؤولية ضبط وتنظيم كميات الإنتاج وتوزيعها زمنياً وجغرافياً، بما يتلاءم مع القدرة الاستيعابية للأسواق المحلية والخارجية.
هذا التنظيم لا يعني الحد من حرية المزارع، بل على العكس، هو تعبير عن وعي جمعي يتجاوز النظرة الفردية قصيرة المدى، ليعزز فرص الربح والاستدامة لجميع الأطراف. وهو تنظيم يعتمد على بيانات دقيقة وتنبؤات ذكية وشفافة تستند إلى أدوات الثورة الصناعية الرابعة، وليس على التخمين والعشوائية.
التقنيات الحديثة: شريك لا بديل عنه في التنظيم الذكي
إن توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء (IoT)، ونماذج التنبؤ السوقي المبنية على تحليل البيانات، يمكن أن يحدث نقلة نوعية في آلية تنظيم الإنتاج الزراعي. فهذه التقنيات تتيح:
• تحليل أنماط الطلب الموسمي ومقارنتها بمعدلات الإنتاج الحالية.
• رصد الطقس والمناخ بدقة عالية للتنبؤ بفرص الإنتاج أو مخاطر الجفاف.
• تقدير الطاقة الاستيعابية للأسواق التصديرية بشكل ديناميكي حسب التغيرات الجيوسياسية وسلاسل الإمداد.
• بناء قواعد بيانات وطنية عن الإنتاج والتسويق والمخزون، تسهم في اتخاذ القرار الجماعي المبني على الأدلة.
وهنا تبرز أهمية الربط الإلكتروني بين وزارات الزراعة والمياه والبيئة، ومؤسسات القطاع الخاص، ومجالس التصدير، وشبكات الأسواق المحلية، ضمن منصة رقمية موحدة تشكل نواة للحوكمة الرشيدة للإنتاج الزراعي.
الإطار التشريعي والتنظيمي: ركيزة لضمان الالتزام
لا يمكن للتنظيم أن ينجح دون مظلة تشريعية تحميه وتضمن امتثاله من جميع الأطراف. على الحكومات أن تتجه إلى:
• سن قوانين تنظم آلية التشارك في تخطيط الإنتاج.
• منح صلاحيات للمجالس الزراعية والاتحادات النوعية لتحديد الكميات الزمنية القابلة للطرح.
• ربط بعض الحوافز والدعم الزراعي بالالتزام بخطط الإنتاج المعلنة.
• اعتماد نظم رصد وإنذار مبكر لأي اختلالات في التوازن بين العرض والطلب.
العمل الجماعي والحوكمة التشاركية: مفتاح النجاح
إن إخفاقات الماضي لم تكن بسبب ضعف المعرفة، بل بسبب غياب العمل الجماعي. لقد أثبتت التجربة أن الاجتهاد الفردي – وإن نجح مؤقتاً – يساهم في خلق الفوضى ويضعف قدرة السوق على الاستيعاب العادل. المطلوب اليوم هو بناء ثقافة جديدة عمادها:
• التنسيق المستمر بين المنتجين والمؤسسات الحكومية والخاصة.
• بناء وحدات تخطيط مشتركة وتشاركية تراجع سنويًا الخطط الزراعية.
• تأسيس منصات للحوار الدوري بين المنتجين والمصدرين والتجار والمستهلكين.
• تعزيز دور التعليم الزراعي والإرشاد لتكوين جيل واعٍ قادر على استخدام التكنولوجيا لاتخاذ القرار الإنتاجي.
الاستدامة الاقتصادية والبيئية هدف مشترك
تنظيم الإنتاج ليس فقط حماية للمزارع من الخسارة، بل هو أداة لضمان الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية من مياه وتربة وطاقة. إذ إن الفوضى في الإنتاج تؤدي حتماً إلى استنزاف الموارد وتلف المحاصيل وخسائر اقتصادية وبيئية معاً.
وبالتالي، فإن ضبط الإنتاج يسهم في:
• خفض كلف الإنتاج عبر خفض الهدر.
• تحقيق الاستقرار في الأسعار بما يضمن عدالة التبادل بين المنتج والمستهلك.
• تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، لاسيما الهدف 2 (القضاء على الجوع)، والهدف 12 (الاستهلاك والإنتاج المسؤولان)، والهدف 13 (العمل المناخي).
صفحة جديدة في الزراعة العربية
لقد آن الأوان للانتقال من منطق الارتجال إلى منطق التخطيط، ومن ردود الأفعال إلى التنبؤ الذكي، ومن الزراعة التقليدية إلى صناعة زراعية مستدامة. التنظيم الواعي للإنتاج هو البوابة الحقيقية لاستعادة الثقة في القطاع الزراعي، وتحقيق السيادة الغذائية، وحماية المجتمعات من تقلبات الأسواق، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تقف اليوم على مفترق طرق اقتصادي ومناخي بالغ الحساسية.
إنها دعوة للقطاعين العام والخاص، وللمزارعين والمستثمرين، للبدء معًا في كتابة صفحة جديدة من التكامل والابتكار في خدمة غذائنا واقتصادنا واستقرار مجتمعاتنا.