في ظلّ ما تشهده منظومتنا التعليمية من تحديات متراكمة، سواء في المدارس أو الجامعات، يبرز التفكير الإبداعي كطوق نجاة، لا بوصفه ترفًا فكريًا أو نشاطًا جانبيًا، بل كضرورة وطنية عاجلة لإعادة تشكيل العقل الأردني، وصناعة جيل قادر على مواجهة الواقع بأدوات الغد.
وهنا تأتي هندسة التفكير الإبداعي كمدخل عملي لإصلاح التعليم، عبر تحويل طريقة تفكير الطلبة والمعلمين من الحفظ والتلقين إلى الفهم والتحليل والابتكار، ومن الخضوع للأنماط الجامدة إلى الانفتاح على احتمالات جديدة، إذ لم يعُد مقبولًا أن تبقى مدارسنا وجامعاتنا تراوح مكانها في وقت تتغير فيه المعرفة وأساليب التعليم عالميًا بسرعة غير مسبوقة.
هندسة التفكير الإبداعي تُعرّف بأنها عملية منظمة لتصميم وتطوير أساليب التفكير، تساعد على توليد الأفكار الجديدة وربط المعارف القديمة بطرق غير تقليدية، وتشجع على تجاوز الحلول الجاهزة والمكررة. إنها ببساطة، تحويل الإبداع من حظٍ عابر إلى مهارة قابلة للتدريب والقياس والتطبيق.
لقد عانى التعليم في أردننا الحبيب – ولسنوات – من اختلال في التوازن بين المعلومة والمهارة، وبين الامتحان والتفكير، وبين التعليم والتعلُّم. فغابت الأسئلة الحقيقية، وتحوّل المعلم إلى ملقِّن، والطالب إلى مستقبل، والجامعة إلى مصنع شهادات، لا بيئة تفكير ونقد وبحث. وفي هذا السياق، يصبح إدخال هندسة التفكير الإبداعي إلى الفصول الدراسية والبيئة الجامعية ضرورة لا تقبل التأجيل، لأن المستقبل لا ينتظر، ولا يُبنى بالعقلية القديمة.
ولتحقيق ذلك، يجب أن نبدأ بخطوات عملية؛ أولها تدريب المعلمين وأعضاء هيئة التدريس على أدوات التفكير الإبداعي وتطبيقاته، وتحويل أساليب التقييم من الحفظ البحت إلى قياس المهارات العليا للتفكير كحل المشكلات والتحليل والابتكار. كما ينبغي دمج مناهج التفكير الإبداعي بشكل عرضي أو كمادة مستقلة ضمن الخطط الدراسية، مع تشجيع البحث، والمشروعات، والتفكير الحر، عوضًا عن الاعتماد الكلي على الامتحانات التقليدية.
والغاية من كل ذلك هي أن نُعيد تشكيل صورة الطالب الأردني ليصبح صانع معرفة، مبادرًا، واثقًا، وقادرًا على التفكير النقدي، بدلًا من أن يبقى مجرّد متلقٍّ في منظومة تعليمية تُكرّر ذاتها عامًا بعد عام. وأن نُعيد الاعتبار للمعلم كمُهندس للعقل لا مجرد ناقل لمعلومة، وللمدرسة والجامعة كمؤسستين منتجتين للحياة لا للبطالة.
وفي ضوء رؤية التحديث الاقتصادي والإداري التي يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، يصبح التفكير الإبداعي ركيزة أساسية في بناء الإنسان الأردني الجديد: إنسان منتج، نقدي، مرن، ومبادر. ولا يمكن إصلاح التعليم أو الإدارة أو الاقتصاد بدون إعادة بناء العقل، فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل.
إن هندسة التفكير الإبداعي ليست مجرد تقنية تربوية أو صيحة عابرة، بل هي ضرورة وطنية في زمن التحديات والتحوّلات. إنها إحدى أهم أدوات الإصلاح المستدام، والضامن الحقيقي لتخريج جيل يمتلك القدرة على التفكير، لا فقط على الإجابة. فلنبدأ من العقل... لنبني أردنًا أقوى، أذكى، وأقدر على صناعة مستقبله.