في زوايا الوطن الصامدة، وتحت سقوف البسطاء، وُلدت ثورة ناعمة ليست كغيرها من الثورات؛ لا تُقرع لها طبول، ولا تُرفع فيها رايات. إنها ثورة تنمو بصمت، وتزهر كالياسمين، هادئة وعنيدة، متجذّرة في أرض الصبر. اسمها: اقتصاد المرأة.
هذه الثورة لم تولد من فراغ، بل هي ثمرة سنين من الألم والكفاح بصمت، من سهر الأمهات خلف ماكينات الخياطة، في معامل صغيرة، داخل بيوت طينية أو سقائف من صفيح، ومن تعب شابات يحملن أحلامهن بأيديهن، ويواجهن واقعًا لا يرحم. إنها ثورة خرجت من رحم المعاناة، حفرت طريقها في صخور التحديات، ورفضت أن يكون "الهامش" قدرًا.
المرأة اليوم لم تعد فقط معيلة لأسرتها، بل شريكة في الإنتاج، وصاحبة مشروع، وقائدة لفريق، ومؤثرة في الأسواق. لقد حولت أدوات البقاء إلى أدوات للنمو، والألم إلى أمل، وفتحت نوافذ جديدة للتنمية في المناطق المهمشة، والبيئات المغلقة، والفرص الضائعة.
اقتصاد المرأة هو تمرد على القيود، والصور النمطية، والجهل، والفقر، والتبعية. إنه تمكين حقيقي لا شعارات، وتحويل للمهارات الصغيرة إلى استثمارات منتجة، والطاقات المعطّلة إلى حركات تنموية تُسهم في رفع الناتج المحلي، وتدعم الاقتصاد الوطني. هو استثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار في الطاقة الشمسية: نور، وعطاء، وتمكين.
نحن اليوم بحاجة إلى إعادة تشكيل العقد الاجتماعي والاقتصادي، ليكون أكثر عدالة وشمولًا. آن الأوان لمراجعة السياسات المالية والتشريعية من منظور النوع الاجتماعي، ولإزالة العوائق أمام وصول النساء إلى التمويل، والأسواق، والتدريب، والتكنولوجيا.
ومع التحول الرقمي والابتكار، اتسعت دائرة الفرص. تستطيع المرأة اليوم أن تسوّق منتجاتها إلكترونيًا، أن تنشئ متجرًا من منزلها، أن تتصل بالعالم دون وسيط، وأن تصنع هوية اقتصادية رقمية مستقلة. ولكن هذا التحول يتطلب دعمًا مؤسسيًا حقيقيًا، من خلال برامج وطنية، وشراكات مع منظمات المجتمع المدني، وصناديق تمويل تراعي الخصوصية النسوية.
ثورة الياسمين التي تقودها المرأة في الاقتصاد، ليست فقط مقاومة ناعمة، بل قوة خضراء تعيد تشكيل بنية المجتمعات، وتضخ دماء جديدة في شرايين الاقتصاد الوطني. إنها تعيد توزيع الدخل، وتقلص الفجوة بين المركز والأطراف، وتخلق نماذج تنموية قابلة للتكرار إقليميًا وعالميًا.
كل مشروع نسوي ناجح هو حكاية وطن يُبنى، وكل منتج خرج من يد امرأة يحمل رائحة الأرض، وملح التعب، وعطر الياسمين. في كل قصة نجاح وعدٌ لأجيال قادمة بأن التمكين ممكن، وأن التغيير يبدأ من الداخل، من الإيمان بالذات، والإصرار على الحلم.
إن اقتصاد المرأة ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية، ليس هامشًا بل قلب المعادلة.
هي ثورة بيضاء، تنمو بهدوء، وتزهر حين نمنحها المساحة، وحين تنجح وتكبر، يكبر معها إنجاز الوطن.