في تزامن مميز ومفعم بالرمزية، تحتفل مصر هذا العام بذكرى رأس السنة الهجرية تزامنًا مع إحياء ذكرى ثورة 30 يونيو، وهما مناسبتان لا يجمعهما التوقيت فقط، بل تتقاطعان في المعنى والدلالة؛ إذ تمثل كلٌّ منهما نقطة تحول حاسمة من الفوضى إلى النظام، ومن التهديد إلى البناء، ومن الفقد إلى الاسترداد.
الهجرة النبوية كانت فعل تأسيس لدولة العدل والرحمة، بينما جاءت ثورة الثلاثين من يونيو كفعل إنقاذ لمؤسسات الدولة الوطنية من مصير التفكك والانهيار، حين قرر شعب بأكمله أن يستعيد زمام المبادرة من جماعة حاولت اختطاف الوطن، وتوظيفه لمشروع لا يمت للدولة المدنية أو لروح الحضارة المصرية بصلة.
وفي هذه اللحظة المفصلية، تبدو قيمة الاستقرار أهم ما يجب التأمل فيه. فوسط محيط مضطرب، وفي منطقة تشتعل أزماتها من كل جانب، ظلت مصر تقاوم، وتحافظ على تماسكها، وتتمسك بدورها التاريخي كدولة لا تصطف إلا مع مصالح أمتها، ولا تتحرك إلا بحسابات متزنة تراعي توازنات الداخل وتحولات الإقليم.
لم تكن مصر في يوم من الأيام دولة انغلاق أو عزلة، بل كانت وما زالت تفتح ذراعيها لأشقائها، تدعم التنمية في محيطها طالما كانت المشروعات غير كيدية، وتبني علاقاتها من منطلق المسؤولية لا التبعية، ومن منطلق المصالح المشتركة لا الإملاءات.
ولا نبالغ إذا قلنا إن مصر – بتاريخها وموقعها ودورها – هي الدولة الأحق بالاستقرار في هذا الشرق المرهق. فهي لم تُبنَ على أنقاض الآخرين، ولم تكن يومًا طرفًا في مؤامرة، بل كانت وما تزال تدفع من لحمها الحي ثمن الحفاظ على الهوية العربية، والدفاع عن القضية الفلسطينية، واستقرار دول الجوار، وتماسك الإقليم.
لكن ليس كل النفوس صافية تجاهها. بل إن محاولات استهدافها لم تتوقف، ومحاولات جرجرتها إلى أزمات الغير ما زالت مستمرة. وقد تجاوز التطاول على مصر كل الحدود، بدءًا من التلويح بالعبث بمقدراتها الطبيعية مثل نهر النيل، وصولًا إلى محاولات مصادرة تراثها الحضاري، وتهميش دورها الفكري، والنيل من مكانتها السياسية.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة المشهد من منظور مصري مستقل، يستند إلى الوعي العميق، ويؤمن بأن الزمن قد تغير، وأن التحالفات لم تعد قائمة على الشعارات، بل على المصالح المدروسة والرؤى الواقعية.
لم يعد كافيًا أن نتمسك بثوابت تجاورتها المتغيرات الكبرى. بل المطلوب هو تجديد أدوات التحرك الإقليمي، ومراجعة السياسات القديمة التي لم تعد تصلح لعالم يعيد تشكيل نفسه كل يوم. لا يعني ذلك أن نتخلى عن ثوابتنا أو نقايض على تاريخنا، بل أن نملك الشجاعة الفكرية للمراجعة، والمرونة السياسية لإعادة التموضع، بما يليق بمكانة مصر وحجم تطلعات شعبها.
السياسة ليست تقديسًا للأوهام ولا حروب شعارات، بل هي فن الممكن، والممارسة الذكية للواقع. ومصر بحكم تراكمها الحضاري وقدرتها على التوازن بين العقل والعاطفة، قادرة على أن تكون مرجعية للاعتدال، وصوتًا للحكمة، ومنصة لبناء التفاهمات لا تفجير الصراعات.
من المهم كذلك إدراك أن الثبات في العلاقات الدولية لا وجود له. إما أن تتقدم أو تتأخر، ولا خيار ثالث. وبالتالي فإن الانخراط الإيجابي في قضايا الإقليم بات واجبًا لا ترفًا. فمصر ليست دولة هامشية، بل دولة محورية لا تليق بها أدوار المشاهدة. إن عليها أن تبادر، أن تطرح الحلول، أن تنخرط في الوساطات، أن تستثمر قوتها الناعمة وصلابتها المؤسسية في حماية أمنها القومي، وصياغة مشهد إقليمي جديد أقل توترًا وأكثر اتزانًا.
وربما تكون اللحظة الراهنة – بكل ما فيها من ضغط – فرصة لانبثاق أفق جديد. فكم من أزمات صنعت يقظة، وكم من محن أعادت ترتيب الأولويات. ولسنا بعيدين عن إمكانية تحويل الألم إلى أمل، شرط أن نتحلى بالإرادة، ونمتلك خريطة طريق واعية، ونعبئ مواردنا في الاتجاه الصحيح.
ومصر – بتاريخها وقوتها السكانية ومخزونها الثقافي – ليست مجرد دولة، بل مركز ثقل حضاري، لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. لذلك، فإن الحفاظ على استقرارها ليس فقط مصلحة وطنية، بل ضرورة إقليمية، لأن زلزالًا في مصر يعني ارتجاجًا في المنطقة بأسرها.
ولأننا على مشارف استحقاق دستوري مهم يتمثل في انتخابات مجلس الشيوخ يعقبها مجلس النواب، فإن اللحظة تفرض علينا مسؤولية وطنية تتجاوز الشعارات، وتتمثل في ضرورة حُسن الاختيار، واختيار من يُعبر بحق عن ضمير هذه الأمة، ويمتلك من الكفاءة والنزاهة والرؤية ما يجعله أهلًا لتمثيل المصريين في برلمان يليق بالجمهورية الجديدة. فالدولة القوية لا تُبنى فقط بالمشروعات، بل أيضًا بالمؤسسات، ولا تُصان فقط بالجيوش، بل أيضًا بالوعي العام، والاختيارات السليمة، والرقابة الشعبية الواعية.
ختامًا، فإن تزامن الهجرة والثورة ليس مصادفة زمنية، بل رسالة حضارية. وكأن التاريخ يقول لنا: إن الأوطان لا تُبنى إلا بإرادة صلبة، ولا تُحمى إلا بالوعي، ولا تزدهر إلا حين تتصالح مع نفسها وتعي مكانتها. ومصر، التي احتملت الكثير، ما زالت تملك أن تبني الأكثر، متى أحسنت قراءة اللحظة، واستدعت روح البدايات من الهجرة والثورة معًا، وسلّمت راية الأمل إلى برلمان يليق بشعبها ودولتها.