تُعدّ الثقافة الوطنية من أهم المقررات الجامعية التي لا يقتصر دورها على الجانب المعرفي، بل تتعداه إلى بناء وعي الطلبة وترسيخ هويتهم الوطنية. فهي مادة تسعى إلى صقل شخصية الطالب الأردني ليكون أكثر إدراكاً لتاريخه، وأكثر فهماً لمجتمعه، وأكثر استعداداً للانخراط في الحياة العامة بصورة مسؤولة.
الثقافة الوطنية، في جوهرها، ليست مجرد دراسة لتاريخ الدولة أو أنظمتها السياسية والدستورية، بل هي أداة لفهم العلاقة العميقة بين المواطن ووطنه. فهي تُبيّن للطالب أنّ الانتماء لا يُختصر في العاطفة، بل هو التزام عملي يظهر في احترام القانون، والمشاركة في الشأن العام، والعمل من أجل المصلحة الوطنية العليا. هذا الفهم يزرع في نفوس الشباب قناعة بأن الوطن ليس مجرد مكان للعيش، بل هو رسالة مشتركة ومسؤولية جماعية.
إنّ ما يميز الثقافة الوطنية أنها تربط بين الماضي والحاضر، وتضع الطالب أمام محطات تاريخية وسياسية واقتصادية مرّت بها الدولة الأردنية، لتجعله أكثر وعياً بالتضحيات التي بُذلت في سبيل الاستقلال والوحدة، وأكثر تقديراً للجهود التي قامت عليها مؤسسات الدولة. وهذا الوعي لا يتوقف عند حدود الفخر التاريخي، بل يتجه إلى استيعاب التحديات الراهنة، والاستعداد للتعامل معها بعقلانية ووعي سياسي.
وقد كان للملوك الهاشميين دور أساسي في ترسيخ هذه الثقافة وتعميقها في وجدان الأردنيين. فمنذ عهد الملك المؤسس عبد الله الأول، الذي وضع اللبنات الأولى لبناء الدولة الحديثة، مروراً بالملك طلال الذي أرسى دعائم الدستور الأردني عام 1952 وكرّس مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ثم الملك الحسين بن طلال الذي قاد الأردن بثبات في أصعب الظروف الإقليمية والدولية، وصولاً إلى جلالة الملك عبد الله الثاني الذي يواصل مسيرة الإصلاح والتحديث، ظلّت القيادة الهاشمية حريصة على تعزيز قيم الوحدة الوطنية والانتماء والولاء، وجعلها أساساً للتعليم ولتنشئة الأجيال. وهكذا يجد الطالب في دراسة الثقافة الوطنية انعكاساً عملياً لدور القيادة في حماية الهوية الوطنية وصون الدولة.
ومن الناحية التربوية، فإن الثقافة الوطنية تُنمّي لدى الطلبة قيم الحوار والتسامح وقبول الرأي الآخر، وهي قيم أساسية لأي مجتمع يسعى إلى ترسيخ الديمقراطية والتعددية. إن الطالب الذي يدرس هذه المادة يصبح أكثر ميلاً إلى التفكير النقدي بعيداً عن الانغلاق أو التعصب، وأكثر إدراكاً لمعنى المواطنة الحقة القائمة على التوازن بين الحقوق والواجبات.
أما على الصعيد السياسي، فإن الثقافة الوطنية تُعِدّ الشباب ليكونوا مواطنين فاعلين في المشاركة الديمقراطية. فهي تعرّفهم بآليات العمل السياسي والحزبي، وتوضح أهمية الانتخابات كوسيلة للتعبير عن الإرادة الشعبية، وتؤكد أن الإصلاح لا يتحقق إلا بالمشاركة الواعية. وبذلك، فإنها تزرع في نفوسهم روح المبادرة، وتحميهم من الوقوع في فخ السلبية أو الانجرار وراء الخطابات التي تسعى إلى بث التشكيك والانقسام.
إن الجامعات الأردنية حين تُصر على إدراج الثقافة الوطنية كمقرر إلزامي، فإنها لا تنظر إليها بوصفها مادة دراسية عابرة، بل باعتبارها مشروعاً وطنياً يُسهم في إعداد جيل قادر على مواكبة العصر دون أن يفقد هويته. فهي تبني إنساناً يؤمن بالوحدة الوطنية، ويعتز بدوره في حماية أمن بلده واستقراره، ويوازن بين الانفتاح على العالم والتمسك بجذوره الوطنية.
ولا تنحصر فوائد الثقافة الوطنية في سنوات الدراسة الجامعية، بل تمتد لتشكل رافعة في حياة الطالب بعد تخرجه. فهي تصحبه في مهنته، وفي علاقاته الاجتماعية، وفي مواقفه السياسية. إنها تصنع مواطناً يملك وعياً نقدياً، ويؤمن بدوره في البناء، ويعي أن الديمقراطية ليست شعاراً وإنما ممارسة يومية تقوم على المسؤولية والمساءلة.
في المحصلة، الثقافة الوطنية ليست خياراً تعليمياً يمكن الاستغناء عنه، بل هي ضرورة استراتيجية للمجتمع والدولة. فهي تؤسس لوعي جماعي يقوم على الانتماء والولاء، وتُعزّز قيم المشاركة الفاعلة، وتُسهم في حماية استقرار الوطن وتعزيز مسيرته الديمقراطية. إن الاستثمار في هذه الثقافة هو استثمار في الإنسان الأردني ذاته، وهو ما يجعلها بحق قاعدة صلبة لبناء المستقبل.