بقلم العقيد .م الدكتور عامر العورتاني أخصائي علم اجتماع الجريمة
شهد يوم السادس عشر من كانون الأول الماضي توجيهاً ملكياً سامياً بتوحيد القرار الأمني عبر دمج المديرية العامة لقوات الدرك ومديرية الدفاع المدني ضمن إدارة الأمن العام ، وإعادة تشكيل هيكلها التنظيمي في منظومة أمنية واحدة ، وكان جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله قد بيّن الغايات التي جاء قرار الدمج هذا ليحققها ، فعلى المستوى التنظيمي يعتبر قرار الدمج من أولويات الوصفات الاقتصادية التي تلجأ الحكومات لاتخاذها في ظل ظروف اقتصادية كالتي يمر بها الأردن ، وذلك بهدف ضبط النفقات المرتبطة بفروع المؤسسات الأمنية ، ورصد الوفر الناتج للمساهمة في سدّ عجز الموازنة وتوجيهه نحو مصروفات تنموية أخرى ، كما بيّن جلالته أنّ قراره الملكي جاء بهدف تجويد وتنسيق الأداء المرتبط بالأجهزة الأمنية ، وبما يضمن تحقيق التناغم في الأداء وتحسين مستوى التنسيق الأمني بما يؤدي إلى النهوض بمستوى الخدمات المقدمة للمواطن .
وقد انطوى قرار الدمج على رؤية ملكية ثاقبة تتطلع نحو مستقبل مشرق ، وترصد الواقع بالتدقيق وتعالجه بيد المصلح الخبير، فقرار الدمج لم يقف عند الغاية الاقتصادية المتمثلة بضبط النفقات ، وإنما تعدت رؤية جلالته تلك الغاية إلى القضاء على الازدواجية في المهام والواجبات الموكلة إلى منتسبي المؤسسات الأمنية الثلاث أينما وجدت ، وذلك عبر وضعها تحت قيادة موحدة تضمن فيها وحدة القرار والمرجعية ، ما سيساهم بالتأكيد في اختصار كثير من وقت إنجاز المهمات واقتصاداً في الجهد المبذول لإتمامها ، ورفع كفاءة الأداء بمنأى عن ارتباك الخطط والتداخل في آليات التنفيذ .
ولا يخفى أنّ قرار الدمج كان بمثابة حِمية صحية الغاية منها تشكيل جهاز إداري أكثر رشاقة بعد توحيد جهود الوحدات الإدارية المتشابهة الوظائف ، ما انعكس على وقت وجهد إتمام المهام وساهم في رفع مستوى احترافيتها ، وإنّ من المؤكد أنّ لتجميع الكفاءات الإدارية والقيادية الأمنية تحت قيادة واحدة أثر في سيادة ثقافة تنظيمية واحدة ، الأمر الذي سيؤدي إلى إيجاد سلوك أدائي موحد لدى منتسبي مديرية الأمن العام على اختلاف اختصاصاتهم ، دون التأثير على خصوصية واجبات كل جهاز منها أو إحداث تداخل في وظائفها ، ما ظهر في صورة خدمات أمنية وإنسانية واجتماعية تُقدّم بصورة ميسرة للمواطن .
وكان أن أوكل جلالة الملك المفدّى المهمة التي اتصفت بكونها نوعية و حيوية إلى الرجل الذي عرفه جلالته منذ سنين طويلة ، وخبر فيه الكفاءة في مختلف المواقع ، وكان جلالته شاهداً على قدراته التنظيمية والقيادية ، وهو اللواء حسين محمد الحواتمة ، فوضع جلالته ثقته بقدرة الرجل على إتمام متطلبات استكمال الإجراءات التشريعية والإدارية اللازمة لإنجاز عملية الدمج بسلاسة ، وقيادة المرحلة الانتقالية التي تخللها مباشرة الحكومة الإجراءات التشريعية الخاصة بتنفيذ التوجيهات الملكية السامية ، وقد قدّم اللواء الحواتمة خلال سنوات خدمته نموذجاً قيادياً بارعاً في قراءة الرسائل والتوجيهات الملكية ، وإدراك الرؤية الكامنة بين سطورها ، وبذل الجهد في جعل الواقع مستقرها ، بعد أن يُمهده بالروح المعنوية العالية لمرؤوسيه ، ويُسيّجه بأعمدة الثقة والاحترام التي شيّدها على أسس العدالة والفرص المتكافئة والمساندة الاجتماعية لكافة المنتسبين .
و بخطى واثقة مضى اللواء الحواتمة خلال الشهور الماضية لتنفيذ التوجيهات الملكية الرائدة في عملية الدمج بإيمان راسخ وسعي صادق لرفع سوية الأداء ، والارتقاء به إلى مستوى طموح جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله ، وبما يُفضي إلى ترسيخ دعائم دولة القانون والمؤسسات ، واحترام حقوق الإنسان ، وصون المنجزات ، وأداء المهام باحترافية ومهنية عالية ، وترتكز على أعلى معايير الكفاءة والنزاهة والشفافية ، وتكريس منهجية المسؤولية والمساءلة ، وتقليص الإنفاق ، وتكثيف الجهود الرامية لتحقيق هذه الأهداف ، وإحداث التكاملية في عمل مديرية الأمن العام لتقوم بالمهام والواجبات الملقاة على عاتقها بأعلى مستويات الجاهزية لتواكب متطلبات العصر وفق التوجيهات الملكية السديدة ، فكان وعد الرجل الصادق بهذه الكلمات وهو يضع نُصب عينيه أمانة أمن الوطن وسلامة مواطنيه .
و باشر اللواء الحواتمة مهامه وعونه بعد الله سواعد النشامى والعقول النيّرة من مرتبات مديرية الأمن العام بهيكلها التنظيمي الجديد ، وهم الأسود الرابضون خلف الخطر وعيونهم على أمن الوطن واستقرار أهله ، بوضع الخطط والبرامج الرامية إلى تطوير البنى الإدارية والتنظيمية ورفع كفاءة القوى البشرية ، ضمن نماذج أمنية حديثة مستندة إلى استراتيجية أبجديتها تعميق التنسيق الأمني ، وكانت باكورة الإنجاز جملة من المشاريع الواعدة ، كمشروع التطوير الفني ، ونظام المسارات الوطنية لتأهيل العاملين وفق تخصصاتهم ، إضافة إلى مشروع المركز الأمني المتكامل والذي يضم بالإضافة إلى مرتباته الأمنية الأصلية مركزاً مسانداً من الدفاع المدني ، وسرية من قوات الدرك ، ولضمان استدامة عملية التحديث والمواكبة تمّ افتتاح " مركز الابتكار والتطوير" بهدف استقطاب الأفكار الإبداعية واستنباتها عبر التحليل الأمني المتخصص بالشراكة مع المجتمعات المحلية .
وحلّت جائحة الكوفيد – 19 لتضع العالم على محك هو الأخطر والأقسى منذ عقود ، فأجبرت الحكومات على اتخاذ إجراءات احترازية وقائية للحد من انتشار الفيروس ، الأمر الذي شكّل تحدياً حقيقياً للبشرية ، فكانت أزمة الكورونا تحدياً جديداً يُضاف إلى التحديات التي يواجهها الأردن والمتمثلة بعجز الموازنة وتذبذب المساعدات الخارجية في ظلّ الضغوط السياسية المرتبطة بصفقة القرن ، ناهيك عمّا يترتب على الظرف الاقتصادي من تبعات أمنية متعلقة بالسلوك الاجتماعي ، حيث شكّل ذلك البيئة الزمانية والمكانية التي شهدت بناء نموذج استثنائي للجهاز الأمني الحضاري الموحد القادر على العمل والتميز في الإنجاز في ظل أصعب الظروف وأعقد التحديات ، فكان الأردن خلال الأزمة مثالاً للدولة المترابطة قيادة وشعباً ومؤسسات على امتداد جغرافيتها ، وإذا ما اعتُبرت الفترة المتسمة بالحظر والإغلاق ميداناً مزدحماً بالكثير من الإجراءات والواجبات وتعدد المسؤوليات ، فإنّ الجهاز الأمني بهيكله التنظيمي الجديد يستحق رفع القبعات وقد نجح في العمل تحت راية الأمن الوطني ، ضارباً أروع الأمثلة على فلسفة العمل الأمني القائم على روح الجماعة والرسالة الإنسانية السامية ، فلم يخلُ مشهد خلال الأزمة من حضور النشامى وهم يُشرفون على نقاط الحجر الصحي ، وينظمون طوابير التباعد المكاني أمام البنوك ومحلات الصرافة والمولات ، ويعملون على إسعاف الكثير من الحالات الطبية وإخلائها إلى المستشفيات ، فكانوا الساعد الأول لإنفاذ أوامر الدفاع دون تهاون ، ومتابعة تفاصيلها من خلال غرف عمليات اجتهدت على مدار الساعة دون احتساب لساعات العمل الطويلة والممتدة دون اجازات ، ولم تكن حكاية النشامى تنتهي مع انطلاق صافرات الإنذار وعودة المواطنين إلى منازلهم ، فكانوا على موعد مع نوبة عمل جديدة لمتابعة الالتزام بالحظر والإشراف على نقاط الغلق حرصاً على سلامة المواطنين وصحتهم ، وهم يتحلون بأعلى درجات ضبط النفس لامتصاص بعض السلوكيات الطارئة بدافع الضغط النفسي من بعض المواطنين .
ولا تزال كوادر مديرية الأمن العام تتخذ من التوجيهات الملكية السامية ، والدعم الموصول من القيادة الهاشمية المظفّرة نبراساً تستضيء به في أداء مهامها الأمنية والإنسانية والاجتماعية بكل احترافية ، الأمر الذي مسّ الأردنيين في صميم احتياجاتهم ، وحفر عميقاً في وجدانهم وهم يشهدون الجهاز الأمني بهيكله التنظيمي الجديد يواصل عمله المشرّف ويؤدي مهامه النبيلة ويحمي الأمن والسلم العام .