في ركنٍ هادئ من لواء الموقر وُلد عام 1937 فارسٌ عربيٌ أردني، لم يكن يعلم أن اسمه — جمال حديثة الخريشا — سيُصبح يوماً مرادفاً للوفاء والانتماء والرجولة.
منذ نعومة أظفاره، كان يحمل في عينيه بريق الكبرياء البدوي، وفي قلبه نار الولاء لوطنه. التحق بالقوات المسلحة الأردنية، هناك حيث تُصنع الرجال، وارتقى صفوفها بشرفٍ وكرامة. لم يكن مجرد ضابط، بل كان قائداً يُحبه جنوده ويهابُه أعداؤه. في عام 1983، عندما أصبح قائداً للواء، كتب أحد جنوده في رسالة سرية: "قائدنا لا ينام قبل أن يطمئن أن كل واحد منا بخير... إنه والدنا في الخندق، لا في الصورة فقط."
لم يكن السلاح سلاحه الوحيد، بل حمل العلم كذلك، فحصل على البكالوريوس والماجستير في العلوم العسكرية، إيماناً منه أن الجندية فكرٌ قبل أن تكون رصاصة.
وعندما لبّى نداء الدولة ليكون وزيراً، لم يغيّر مكتبه قلبه. بقي جمال حديثة الخريشا كما كان في المعسكرات، صادقاً، حازماً، قريباً من الناس. حمل هموم الوطن من موقع وزير الدولة، ومن تحت قبة البرلمان، وفي مجلس الأعيان، وكان صوته دائماً صوت الحق.
وفي إحدى جلسات البرلمان، وقف مدافعاً عن جندي بسيط حُرم من حقه، فقال بصوته الجهوري: "من لا ينصف الجندي، لا يستحق أن يتحدث باسم الوطن!"، وساد الصمت، لأن الجميع علم حينها أن الفارس يتكلم.
تقاعد من المناصب، لكن لم يتقاعد من حب الوطن. ظلّ يعلّم شباب القبيلة أن "القيمة لا تُقاس بالكراسي، بل بالمواقف"، وكم من موقف له، كان وحده كفيلاً بأن يكتب تاريخاً.
في سنواته الأخيرة، جلس في ظلّ شجرةٍ زرعها بيده منذ عقود، وقال لحفيده: "يا بني، كل وسام وضعوه على صدري، أعتز به، لكن أعظم وسام، هو أن يُقال عنك إنك كنت مخلصاً لوطنك."
رحلة جمال حديثة الخريشا ليست مجرد سيرة مسؤول، بل حكاية رجلٍ لم تغيّره المناصب، بل زادته تواضعاً. حكايةُ فارسٍ ظلّ واقفاً… حتى النهاية.