في ردهات المستشفى، حيث الهدوء الممزوج برائحة الانتظار، كان يرقد هناك... رجلٌ لا يشبه المرضى، ولا يليق به الضعف. جسده يُصارع الألم، لكن ملامحه ما زالت صارمة، شامخة، كأنها خرجت للتو من ساحة العرض العسكري.
دخلت عليه... سلّمت، فابتسم. لم يكن بحاجة للكلام، كانت نظراته وحدها تُخبرك أنه ما زال القائد. سألني عن أحوالي، وكأن لا شيء فيه يُوجعه، وكأنه هو الزائر لا المريض.
ذلك هو العميد الركن المتقاعد داوود جميل نويران النهار المناصير... قامة عسكرية لا تُخطئها العين، ورجلٌ من أولئك القلائل الذين تُصنع منهم حكايات الجندية والإخلاص والانتماء.
في صباه اختار طريقًا لم يكن معبّدًا... التحق بالجيش، لا بحثًا عن منصب، بل إيمانًا بأن الوطن بحاجة لرجالٍ يحرسونه بالحديد والنار والعقل. خاض المعارك، وتخرج من أرقى مدارس الضبط والربط العسكري. قائدٌ لا يعرف التردد، وصارم لا يعرف المجاملة. كان محاربًا حين يتطلب الأمر، ومخططًا حين تحتاج الساحة إلى عقل، ومربّيًا حين تُزرع في نفوس الجنود بذور الولاء والانتماء.
يقول من عمل معه: "لم يكن ضابطًا عاديًا... كان قدوة. رجلًا يُشار إليه بالبنان، نُحسن به الظن في أوقات الحسم".
ويقول من زاره في مرضه: "كان يسأل عن الجميع، حتى وهو يتألم. لا يشكو، ولا يتذمّر، كأنه يخجل من أن يراه أحد ضعيفًا".
ورغم تقاعده، بقي داوود المناصير من أولئك الذين لا يغادرون المشهد. صوته كان حاضرًا في وجدان من عرفه، ونصائحه كانت تُردّدها ألسن الضباط الشباب. رجلٌ ترك وراءه إرثًا لا يُمحى، ومدرسة عسكرية وإنسانية ينهل منها كل من تشرّف بخدمته تحت رايته.
ثم جاء الرحيل... بهدوء الكبار، وبوقار العظماء، ودّعنا أبو الليث. لم يكن وداعًا عاديًا، بل غيابٌ لركنٍ من أركان الرجولة في هذا الوطن. لكنه وإن غاب جسدًا، فذكراه باقية، تحرسها القلوب وتتناقلها الألسن.