لن أتحدث عن عمق العلاقات بين الشعبين، والتي تعدّدت وتشعّبت على مدى قرون طويلة، لن أتحدث عن التاريخ والحضارة التي حفرت على وجه الزمن الوحدة الثقافية والإنسانية التي جمعت بين ضفتي النهر المقدس، ولن أغوص في الوجدان والوشائج الضاربة في العمق فهي لا تخفى على أحد، ولن أصف كرم الضيافة، وحسن الاستقبال الذي غمرنا به أبناء فلسطين من رأس الدولة حتى المواطن البسيط، وذلك خلال زيارتي أنا والوفد المرافق، إلى مدن وبلدات ومقدسات فلسطين، فكل هذه شواهد ظاهرة لا يمحوها الزمن.
فخلال زيارة مليئة بالدهشة والمشاعر الجياشة والعمل الدؤوب، برفقة وزير الثقافة الفلسطيني د. أنور أبو عيشة، ولقاءات عديدة مع مثقفين وكتّابٍ ومسؤولين كبارٍ ورجال دولة ومواطنين، ومن خلال جولات في المدن العريقة بأسواقها التراثية وعبق مقدساتها، لمست أن الصمود والتشبّث بالأرض والهوية هو ثقافة متجذّرة لدى الشعب الفلسطيني، وأن الصراع في أساسه صراع ثقافي وحضاري؛ لذا فإن العمل على بناء فعل ثقافي وأنشطة متنوعة ومدروسة سيكون القلعة الحصينة التي تنكسر عليها مخططات الاحتلال والتهويد.
إن مقولة «الأردن رئة فلسطين» تتردد على ألسنة أبناء الضفة المنغرسين في أرضهم رغم جدار الفصل العنصري وحواجز التفتيش ومحاولات التهجير، مما يؤكد أننا لا نتحدث عن بلدين جارين وحسب، بل عن حياة مشتركة وتواصل لا ينفك عراه، فما زالت دماء شهداء الجيش العربي الأردني تعطر أرض فلسطين في اللطرون وباب الواد وفي الخليل وقلقيلية ونابلس، وما زالت الوشائج والأعراق تجمع وتعمق الكرك بالخليل وعمان بالقدس والسلط بنابلس وإربد بجنين، وما زالت الروح العربية شامخة صامدة لا تنكسر أمام عاديات الزمان.
في القدس المسافة أقرب ما بين السماء والأرض، لأنها الأرض التي باركها الله، ومسرى الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ومعراجه إلى السموات العُلى، ومن هنا فإن آل هاشم ومنذ عهد الشريف الحسين بن علي والملك المؤسس عبدالله الأول، والملك طلال، ومن بعده الملك الحسين بن طلال باني الأردن ومسيّر حملات الإعمار والرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، يعرفون حجم المسؤولية الملقاة على الأردن، الذي ينهض بمهام جسام تتمثل بحفظ المقدسات ورعايتها والدفاع عنها على الأرض وفي المحافل الدولية، والإشراف على إعمار هذا التراث الديني والإنساني الكبير، بجهود إداريين وموظفين ورجال دين، يتبعون الحكومة الأردنية من خلال الولاية الدينية المعترف بها والموثقة بالتاريخ والاتفاقيات، وعبر مكارم هاشمية لا تنقطع، كان لجلالة الملك المعزّز الدور الأبرز بها.
إن تشبث الإنسان الفلسطيني بأرضه رغم معاناة تطول وتطول، هو جدار صلب في وجه جدار الفصل العنصري الذي يجثم على الأرض والقلوب، ويبتلع مساحات واسعة من أرض فلسطين، ويضيق على المدن ويقطع أوصالها بالحواجز والدوريات، يضيّقون الأرض لكنَّ المدى يتسع والأمل يكبر. إن محاولات تهويد القدس وتقسيم الحرم الإبراهيمي في الخليل ومحاصرة المدن، تقابلها شرعية تاريخية وقانونية ونضالية تُبقي على الأمل بالحرية وبناء الدولة مُضاءً في الأفق.
لقد أثمرت الزيارة عن التوقيع على برنامج تنفيذي ثقافي للأعوام الثلاثة القادمة ترجمةً للاتفاقيات الثقافية الموقعة بين البلدين، وعن برامج وفعاليات تنفذ فوراً في مدن أردنية وفلسطينية بالتزامن، وعلى رأسها أيام القدس في ذكرى تحريرها على يد صلاح الدين، إضافةً إلى حوارات مع مسؤولي الحكم المحلي في المدن الفلسطينية من محافظين ورؤساء بلديات، ولقاء مع رئيس الديوان الرئاسي الفلسطيني، والتي تم تتويجها بمقابلة فخامة الرئيس محمود عباس، لتؤكد على أهمية الثقافة ودورها الأساس في حفظ الهوية والأرض، ولتكون ركيزةً في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
نعم، الأردن رئة فلسطين وظهرها الساند وعمقها العربي، كان وجوده كما تفصح ألسنة الناس على اختلاف مستوياتهم، عاملاً مهماً في دعم الصمود، مع محاولات التهجير والإذابة، لأن الطائر الحر لا يحلق إلا بجناحيه كما هو النهر المقدس يسمو بضفتيه فوق هام المجد، ونحو أمل منشود سيأتي مهما تأخّر.
اليوم بعد أن صافحنا المساجد والكنائس والأسواق العتيقة في فلسطين، نقرأ لغة الحجر وملامح البشر، ونستبشر خيراً بالقادم للأمة، عاقدين العزم على تحقيق تواصل ثقافي فاعل وملموس يصل إلى الشرائح كافة في كلا الضفتين، فالثقافة الوعاء الواسع، والزراعة تفرش بذورها بين الضفتين، وصناعة الصابون النابلسي تجمع بين زيت زيتون الضفة ونباتات جبال البلقاء، والتجار يحملون المحبة والتواصل، كما الشعراء والكتاب يصنعون من ألم الناس وجراحهم شموخاً يضيء درب المستقبل الأفضل.
وسيبقى الأردن وفلسطين رئتين في جسد، وعينين في رأس، ومركزي الحضارة والثقافة والرقي الإنساني.