في ليلة استثنائية من ليالي المهرجان الوطني للفنون الشعبية في دورته الرابعة والخمسين بالجوهرة الأصيلة مراكش، ألهبت الفنانة سعيدة شرف منصة قصر البديع بصوتها القوي المتوهج، مقدّمة عرضًا فنيًا تجاوز حدود الغناء، ليصبح لحظة اشتعال فني وروحي جمعت بين التراث والهوية والوطن.
لم تصعد سعيدة شرف إلى منصة البديع لتكتفي بكشكول من ريبرتوارها الخاص، بل أبدعت مع فرق شعبية لوحات باذخة جمعت ألوان الموسيقى المغربية من الحساني إلى الأمازيغي مرورًا بكل التعبيرات التراثية، فكانت صوت الجنوب الذي احتفى بالمغرب كله.
سعيدة شرف؛ التي تشرفت بكونها أول امرأة تعتلي هذه المنصة في مناسبة مماثلة، شاركت للمرة الأولى في المهرجان، وسَطعت بين نجومه كنجم فريد، بانسجام صوتها مع الإيقاعات المختلفة، وملامسته للقلوب والحناجر في آن.
وكانت أيضًا أول امرأة تنال درع المهرجان، لكنها رفضت أن تتسلّمه وحدها، وتقاسمته بعرفان مع من تعتبره "عرّابها" وأباها الروحي، الموسيقار وعازف العود الحاج يونس، الذي له الفضل في انطلاقتها الفنية قبل عشرين سنة، وذلك بحضور الفنان الكبير فؤاد الزبادي، صاحب الحنجرة الذهبية الذي شاركها الغناء على نفس المنصة.
في ندوة صحفية سبقت الحفل، عبّرت سعيدة شرف عن فخرها واعتزازها بالمشاركة والتكريم، معتبرة الحدث تتويجًا لمسيرة فنية امتدت لأكثر من عشرين سنة، ومسارًا حافلًا بالمثابرة والتجديد. كما وصفت هذه الدورة بكونها رمزية، لاحتضان قصر البديع الفعاليات، وتزامنها مع الذكرى الأربعين لتأسيس جمعية الأطلس الكبير، المنظمة للمهرجان.
لكن ما جعل عرضها استثنائيًا بحق، هو ذاك النفس الذي تجاوز حدود الأداء الفني ليتحول إلى نداء وجداني مليء بالإحساس بالانتماء. احتفت بكل الألوان الموسيقية التي تمثل المغرب من شماله إلى جنوبه، ودمجت الكدرة والشرعة من عمق الصحراء مع إيقاعات الهيت والفلكلور الأمازيغي.
نجمة النسخة الرابعة والخمسين خلقت لحظة فنية مواطِنة تجاوزت الترفيه لتُصبح فعلًا وجدانيًا تعبويًا. إذ فاضت مشاعر الجمهور بروح "تمغربيت"، ووحدة الانتماء، وجمالية الاختلاف الذي يشكّل المغاربة.
فلم تكن تغني لتُطرب فقط، بل أوصلت رسالة حب كبيرة لهذا الوطن المتعدد. كانت سفيرة الجنوب، وصوت الصحراء، وامرأة صدحت بفنها لتقول: نحن هنا، موحّدون تحت الراية العلوية.
وبحسب متتبعين لمسارها الفني، لم تكن ليلة قصر البديع مجرد عرض، بل مشهدًا متكاملًا ألهب الحضور، وجسّد الفن الشعبي المغربي في أبهى صوره. صوت سعيدة شرف تجاوبت معه الأسوار والقباب وأطلال التاريخ، وكأنها تشهد أن حضارة كانت هناك، وها هي حنجرة ذهبية تحييها من جديد.
وبهذا الظهور، أثبتت سعيدة شرف أن الفن بالنسبة لها فعل مدني وثقافي عميق، يذكّر الجميع بالمشترك الإنساني، ويعيد وصل ما قد ينقطع بين المغاربة وجذورهم.
لقد كانت، وبحق، عروس الدورة ونجمة نجومها، لأنها أدّت بإحساس، وحملت إلى الحضور دفء الجنوب، وشموخ الصحراء، ونخوة القبيلة، وكبرياء امرأة مغربية تأبى إلا أن تكون كذلك… سعيدة شرف، وكفى!