سلّط ألكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي والمنظّر الجيوسياسي المعروف، الضوء على الأبعاد العميقة للمواجهة الأخيرة بين الإيرانيين والإسرائيليين، خاصة مع التدخل الأميركي الذي ساهم في توجيه وتجويد الضربات الجوية الإسرائيلية. وقدّم دوغين تفسيرًا لافتًا وغير تقليدي لهذه المواجهة، استند فيه إلى فهم فلسفي–استراتيجي يتجاوز التحليل العسكري المباشر.
هدنة كمومية وحرب قائمة وغير قائمة
دوغين أشار بوضوح إلى أن هذه المواجهة فتحت أبوابًا لحرب مفتوحة وغير مفتوحة في آنٍ معًا، من النوع الذي تُطلق فيه التهديدات النووية التكتيكية، ما يعيد تشكيل مشهد دولي خطير يقترب من عتبة حرب عالمية. إنها مرحلة تعكس، من وجهة نظره، أخطر ما وصل إليه النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة.
تلاشي الخط الفاصل بين الرواية والواقع
ما يلفت النظر في تحليل دوغين هو تأكيده على أن الحروب الحديثة لم تعد تُخاض فقط بالأسلحة، بل بالروايات التي يصوغها كل طرف كما يشاء، ويتبناها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل. لم تعد الحقيقة تُحدّد على أرض الواقع، بل تُصنع في فضاء المعلومات. فالإيرانيون والإسرائيليون والأميركيون باتوا يُنتجون روايات متضاربة يفرضون من خلالها سرديات تُربك المتابعين وتُضلل الرأي العام.
حرب التصريحات ونظرية السيطرة بالإنهاك
يضيف دوغين بعدًا نفسيًا مثيرًا في تفسيره للحرب الإعلامية، مُشيرًا إلى أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب استخدم منهجية التصريحات المتناقضة عمدًا، بحيث يُطلق تصريحًا ناريًا يتبعه بنقيضه، ليُبقي الجمهور في حالة من الإعياء الذهني والانفعال العاطفي – وهذه، برأيه، إحدى أدوات السيطرة السياسية.
الرواية الدينية: إسرائيل والمهدي والهيكل الثالث
في قلب الصراع، يتقاطع السياسي بالعقائدي. فنتنياهو يتبنى رواية توراتية تؤمن بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة وبناء الهيكل الثالث كشرط لظهور "المسيح المنتظر”، في تجاهل تام لموقف المسيحية التقليدية التي ترى أن المسيح هو من يأتي أولًا. وعلى الجهة المقابلة، يتبنى النظام الإيراني عقيدة دينية شيعية تُجيز المواجهة الشاملة مع "الشيطان الأكبر” – الولايات المتحدة وإسرائيل – تمهيدًا لظهور المهدي المنتظر. هكذا، يصبح كل طرف يرى نفسه أداة لمشيئة إلهية مرتبطة بنهاية الزمان.
ويوازي هذا الطرح اتجاهات بروتستانتية في الغرب تؤمن بأن قوة إسرائيل هي شرط لعودة المسيح. هذه التوليفة اللاهوتية–السياسية تجعل من الصراع القائم صراعًا عقائديًا وجوديًا، يتجاوز المصالح الأرضية إلى مستوى تفسير الغيب والنبوءات.
التكنولوجيا كسلاح آيديولوجي
إننا اليوم نعيش في دوامة حروب تُدار بلغة رقمية تسوّق لعقائد مهيمنة، في تعارض صارخ مع جوهر الرسالات السماوية الثلاث. لقد تداخلت في هذا العصر الآيديولوجيا القديمة، والتكنولوجيا الإعلامية، والحداثة التقنية، لتنتج شكلًا من الصراع لم يشهده التاريخ من قبل.
باتت الدبابات تسير على وقع سرديات إعلامية مضللة، وأصبحت المنصات الرقمية تمتلك قوة فتاكة تعادل النيران في ساحات المعارك. وأصبح التمييز بين الحقيقة والخيال في هذا العصر مهمة شبه مستحيلة. المنطقة الممتدة من غزة إلى إيران تحولت إلى مسرح "فوضى كمومية” كما يصفها دوغين – لا شيء مؤكد، وكل شيء ممكن.
نحو حرب عالمية نووية غير مُعلنة؟
دوغين لا يستبعد أن يكون العالم قد دخل فعليًا مرحلة حرب عالمية ثالثة غير مُعلنة، تجاوزت فيها القوى المتحاربة الخطوط الحمراء النووية. وما يعزز خطورة المشهد هو أن الرأي العام العالمي بات مهيأ نفسيًا لتقبّل فكرة أن المواجهة النووية قادمة لا محالة.
صراع غير قابل للحل
في ضوء كل ما سبق، يصبح من الواضح أن الصراع الإيراني–الإسرائيلي ليس سياسيًا ولا اقتصاديًا فقط، بل صراع وجودي ديني متأصل، يجعل من التفاهم بين الأطراف شبه مستحيل. فنتنياهو لا يؤمن بسلام يتناقض مع رؤيته التوراتية التي تُجسّد تفوقًا دينيًا وعرقيًا على بقية البشر، ما يضع المنطقة والعالم على حافة انفجار دائم.