في ظل ما يشهده المجتمع من موجات سخرية وتشفي على وسائل التواصل الاجتماعي، عقب حوادث مؤلمة كحادثة التسمم الناتجة عن الكحول المغشوش، كان لا بد من التذكير بمواقف إنسانية حيّة يمكن أن تغيّر حياة إنسان وتعيده إلى جادة الصواب، بدلًا من أن نهدمه بالتنمر والتكفير والشماتة.
في عام 2002، وخلال خدمتي العسكرية في إحدى المحافظات، تم ضبط رجل في حالة سُكر شديد قرب موقع استراتيجي. ما أثار الشبهات هو فقدانه لتوازنه وسلوكه غير المنضبط، فتم التحقيق معه من قبل النقيب آنذاك ناجح بخيت الهقيش "أبو عون"، الذي سرعان ما أدرك أن الرجل تائه حرفيًا ومعنويًا، واقع تحت تأثير الإدمان وفاقد لقواه العقلية المؤقتة.
بعد فترة قصيرة، تلقينا اتصالًا من الاستعلامات يفيد بأن فتى لا يتجاوز عمره 15 عامًا، يقف على باب المركز يسأل عن والده. وعندما أبلغت ناجح بك بذلك، سمح للطفل بالدخول. ومع استعادة الرجل لبعض وعيه، دار بينه وبين الضابط حديث سيبقى محفورًا في الذاكرة. قال له ناجح بك:
"ما بدي أرسلك للمحكمة، لكن ابنك هون... هل تكفل والدك؟"
رد الطفل باكيًا: "نعم، أكفله".
فوجئ الأب وبكى بحرقة وقال: "دخيلك يا سيدي، توبة... إذا شربت مرة ثانية بحياتي".
ناجح بك قال له: "وعدني إنك تدير بالك على حالك وعلى أولادك، وهي رقمي إذا احتجتني...".
حينها التفت إليّ ناجح بك وقال: "يا خوي يا سائد، وراء قصدي من هذا الإجراء أني شفت في ملفه إنه عنده خمس أولاد صغار، ومنهم توأم بنات ببداية نهوض الحياة... خفت نكون سبب في ضياع مستقبلهم، ولعل الله يهديه، ترى السُترة زينة".
مرت السنوات، وقبل فترة قصيرة، التقيت بذلك الرجل صدفة في إحدى الدوائر الخدمية، فعرفني بنفسه وذكرني بالموقف. قال لي إن ذلك الموقف كان "درسًا قاسيًا" غيّر مجرى حياته. أصبح متزنًا، وتحوّلت حياته إلى قصة نجاح. إحدى بناته أصبحت طبيبة أسنان، والثانية مهندسة مدنية، وجميع أولاده حصلوا على شهادات جامعية. لم يقتصر التحول على الجانب الأكاديمي فقط، بل أصبح حاضرًا في حياة أسرته، ملتزمًا، وشاكرًا لله ثم للضابط ناجح الهقيش، الذي منحه فرصة جديدة بدل أن يدفعه نحو الهاوية.
ما دعاني لكتابة هذا المقال اليوم هو موجة السخرية التي طالت ضحايا حادثة التسمم الأخيرة، وكأن الموت أصبح مادة للضحك والتشفي، بدل أن يكون لحظة رحمة وتأمل ومحاسبة للنفس.
العقيد الركن ناجح الهقيش، هذه مجرد فقرة بسيطة من كتابك الحافل بالمواقف الإنسانية والشجاعة والستر.
اللهم أدم عليه الصحة والعافية، وجازِه عنّا خير الجزاء.