عندما يُذكر الإعلام الرصين والمهنية العالية في الوطن العربي، لا بدّ أن يتصدر اسم جميل عازر القائمة. هو ليس مجرد مذيع أو معد برامج، بل هو مدرسة متكاملة صنعت فرقًا في المشهد الإعلامي العربي، ونقلت صوت الأردن من الحصن إلى لندن، ومن الدوحة إلى كل بيت عربي.
ولد جميل عازر عام 1937 في بلدة الحصن بمحافظة إربد، شماليّ الأردن. انطلق في مسيرته الإعلامية من الإذاعة الأردنية في الستينيات، حيث تألق بصوته الهادئ الواثق، ومفرداته المنقاة، وحضوره الذي أسر الأذن والعقل قبل أن يعرفه المشاهد العربي وجهًا على الشاشة.
محطات ذهبية في مسيرة استثنائية
لم يتوقف طموح عازر عند حدود البث المحلي؛ فكان انتقاله إلى هيئة الإذاعة البريطانية BBC نقطة تحول فارقة. هناك، لم يكن مجرد صوتٍ ضمن مجموعة، بل أصبح أحد الأصوات العربية الأكثر حضورًا واحترامًا، مقدّمًا برامج ثقافية وسياسية شكلت مرجعية للمشاهدين العرب في زمنٍ كانت المعلومة فيه نادرة، والثقة في الإعلام الأجنبي محفوفة بالشكوك.
ثم جاء عام 1996، العام الذي غيّر خارطة الإعلام العربي، بانطلاقة قناة الجزيرة. وكان جميل عازر من أعمدتها الأولى، مشاركًا في تأسيس هويتها المهنية، ومساهمًا في بناء مصداقيتها وشعبيتها. ومع كل ظهور له على الشاشة، كان المشاهد العربي يشعر أنه يستمع إلى الحقيقة، خالية من الزيف أو التهويل.
برامج محفورة في ذاكرة الجمهور
كان برنامج "الملف الأسبوعي" الذي قدمه، نموذجًا للإعلام التحليلي العميق والمتزن، لا يتعامل مع الأحداث بسردٍ سطحي، بل يغوص في خلفياتها وسياقاتها. أما برنامج "ما وراء الخبر"، فكان ساحة حوارية راقية أدارها عازر بكل احتراف، مستضيفًا ضيوفًا من مختلف الاتجاهات، ومحافظًا على التوازن والهدوء في أكثر القضايا حساسية.
وفي نشرات الأخبار، كان لجميل عازر حضور خاص، بلغته الفصيحة، وأسلوبه المترفّع عن الإثارة، مما أكسبه احترام المشاهدين وثقتهم.
رائد في التدريب والتأثير
لم يكن تأثير جميل عازر محصورًا بالشاشة؛ بل تجاوزها إلى تدريب أجيال من الإعلاميين في الأردن وخارجه، ناقلًا خبرته في الإلقاء، والتحرير، وضبط اللغة، ومهارات الإقناع. لم يكن بخيلاً بمعرفته، بل مؤمنًا بدوره كأستاذ وموجّه، زرع بذورًا إعلامية أثمرت في العديد من المؤسسات العربية.
الرحيل عن الشاشة.. وبقاء في الذاكرة
في عام 2016، ترجل جميل عازر بهدوء من قناة الجزيرة، معلنًا تقاعده بعد عقود من العمل، تاركًا وراءه مكتبة حيّة من الأداء المهني، وصوتًا خالدًا في الأرشيف العربي. لكنه، ورغم ابتعاده، ظلّ حاضرًا في القلوب والعقول، يُستشهد بأسلوبه، وتُدرّس تجاربه، ويُقارن بها من بعده.
جميل عازر.. الوجه النقي للإعلام
هو الإعلامي الذي لم يخن اللغة، ولم يساوم على الحقيقة، ولم يرضخ للتهويل أو الاستقطاب. صوته حمل ثقة الأردني، وثقافة المثقف، وأناقة الرجل الصامت حين يجب، والجريء حين يلزم.
في زمن تعالت فيه الضجيج وتراجعت المعايير، تظلّ تجربة جميل عازر واحة صدق ومهنية، وسيرة تستحق أن تُروى للأجيال، ليس فقط باعتبارها تجربة إعلامية، بل لأنها أيضًا حكاية رجل أحبّ وطنه، وخدم أمته، وكان عنوانًا من عناوين الفخر الأردني والعربي.
رحل عن الشاشة، لكنّه بقي فينا... بصوته، بأدبه، وبمواقفه.