وداعا للفارس الحوراني الذي استقبل المرض والموت بالابتسامة والحمد .
لطالما ذرع المسافة الممتدة بين جمحا واربد ، والمسافة بين جمحا أخت زحر واربد لا مندوحة بينها سوى كفر يوبا ووادي الخفر .
غادر العوكر ابو محمد الفانية بكامل اناقته وبهاءه .
" ما كان الا حساماً اغمدته يدٌ ثم انتضته اليد الأخرى على عجل " .
معرفتي بالفقيد قصيرة جدا لكنها غنية وثرية ، فموقف واحد اثيل يغني عن جم غفير ضحل ، تعود معرفتي فيه إلى أواخر صيف عام ١٩٨٩ ، انا " توزعت " من مؤتة إلى الفرقة الرابعة بعد " تعايش " لتشكيلات ووحدات الفرقة ، وهو عائد من وحدة الامن والحماية لا تزال رائحة المطار والعطور تفوح من يديه وهندامه ، لمحاسن الصدف كان هو قائد السرية وانا قائد فصيلة بمعيته ، نتقاسم الخيام ، هو خيمة تحت شجرة ، وانا والملازم شبلي العبادي والملازم /١ رياض الدعجة - آنذاك - خيمة ثانية تحت شجرة بلوط مجاورة ، تصوروا خيام تتأبط احراش البلوط بين قصرين ، قصر حازم نسيبة وقصر عبود سالم ، ومدرسة البكالوريا تغفو على الحيد الجبلي المقابل للمعسكر ، للاسف لم يطل مقامه بيننا لخلاف وقع بينه وبين قائد الوحدة ، نتيجة وشاية ، وما أسوأ من الوشاية الا الإذن التي تصغي للوشاية ، أيها القادة أينما كنتم وفي أي زمان ، تحرّوا الدقة ، وتحققوا ، وتبيّنوا ، ان تظلموا احدا على الوشاية فقط ، فقلما تصدق الوشايات ، اياكم ؛ فاذان الشياطين فقط هي التي تطرب للوشايات .
كان فارع الطول والمقام ، وباذخ الدماثة ، اريحي وارحبي ، كنت أتابع خطواته عن بعد من غير تواصل ، وادعوا له بظهر الغيب .
قابل المرض كفارس لا تلين قناته ، ولا تقنط معنوياته ، لكنه الموت " سهم غير خاطئة " ،" نعلل بالدواء اذا مرضنا فهل يشفي من الموت الدواء " ، وكأني به دائم الترديد :
" تواضع ما استطعت فلست الا ترابا راحلا صوب التراب
يا رب خذني إلى مثواي محتفظا بما لديّ فلا عجزٌ ولا المُ " .
كنت على المدى اغبط دورة الضباط ١٨ من الكلية العسكرية ، كوكبة من الفرسان الكماة الاباة ، فروسية وتواضع ، باقة من رماح شوامخ في جعبة الوطن ، وطاقة من سهام صائبة في كنانة الجيش ، كأن الله اختارهم رفاق لاتلاف القلوب والأرواح والعزائم .
لا أعرف يا أبا محمد هذه الغريزة القلبية تجاهك ، مردها انتماء السلاح والجيش ام انتماء القبيلة ، يقول الباحث الدكتور محمود مهيدات في كتابه " عشائر شمال الاردن " ان عشيرة الطاهات إحدى عشائر بلدة جمحا ، الواقعة على يمين المغادرين من اربد إلى الأغوار ، ويذكر المهيدات ان الطاهات ينتسبون إلى جدهم محمد الطه ، وانهم قدموا من جزيرة العرب مع قبيلتهم الام " الحمايدة " وسكنوا منطقة الطفيلة ثم ما لبثوا ان جاءوا إلى الشمال سعيا وراء الماء والكلأ .
اللهم انه صبر على البلاء ولم يجزع ، فامنحه درجة الصابرين ، الذين يوفون اجورهم بغير حساب .
اللهم ان خالد العوكر الطاهات في ذمتك وحبل جوارك ، فقه من فتنة القبر وعذاب النار ، وانت أهل الوفاء والحق ، فاغفر له وارحمه انك انت الغفور الرحيم " .
" صعب علينا ان نقول وداعا يا من كرمت شمائلا وطباعا