يشهد العالم اليوم واقعًا متسارعًا تتفاقم فيه الأزمات وتزداد فيه التحديات الأمنية تعقيدًا، وفي خضم هذا الاضطراب العالمي، تبرز النظريات السياسية والتحليلات الأكاديمية كمحاولات لفهم مجريات الأحداث، من خلال دراسة موازين القوى وإدارة الصراعات وتحديد مسارات المصالح، إلا أن الواقع الميداني غالبًا ما يفرض نفسه، متجاوزًا النظريات والتقديرات، ومرسخًا معادلات جديدة لا تخضع دائمًا لقواعد التحليل التقليدي.
تتجه الأنظار اليوم نحو منطقة الشرق الأوسط، التي أصبحت مسرحًا لصراعات النفوذ والتحكم في الموارد، ومن أبرز تلك المواجهات الحالية التصعيد الإيراني – الإسرائيلي، الذي يتخذ طابع "الحرب الرمادية"، والتي تصاعدت في يونيو 2025.
تتناول هذا المقال تداعيات هذه الأزمة على المستويين السياسي والعسكري، حيث تشير تقارير صادرة عن معهد الدراسات الأمنية في تل أبيب والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن إيران باتت على مسافة "أسابيع قليلة" من إنتاج مادة انشطارية تكفي لصنع سلاح نووي واحد على الأقل، هذا التطور اعتُبر تهديدًا وجوديًا من قِبل إسرائيل، ما دفعها إلى تبني سياسة الضربات الاستباقية عبر عملية "الأسد الصاعد"، والتي شملت هجمات صاروخية استهدفت مواقع استراتيجية في طهران وشيراز وأصفهان، بما في ذلك منشآت نووية وعسكرية.
أدت هذه الهجمات إلى وقوع خسائر بشرية وأضرار كبيرة في البنية التحتية التابعة للحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى تدمير شبكات الاتصالات، ونشوء حالة من الذعر تسببت بنزوح جماعي من العاصمة طهران. وردًا على هذه الهجمات، قامت إيران بإطلاق صواريخ باليستية، بلغ عدد منها تل أبيب، ما دفع بالأزمة إلى أقصى درجات التصعيد منذ عقود، بحسب تقارير كل من Wall Street Journal وWashington Post.
ميدانيًا، شاركت نحو 200 طائرة حربية إسرائيلية، بالإضافة إلى طائرات مسيّرة عالية الدقة وعمليات استخباراتية داخل الأراضي الإيرانية. ووصفت The Wall Street Journal هذه الضربات بأنها "هزّت أركان النظام الإيراني".
تاريخيًا، تعود جذور الصراع بين إيران وإسرائيل إلى ما بعد الثورة الإيرانية، حيث بدأت منذ التسعينيات ما يعرف بـ"حرب الظل"، التي تضمنت عمليات اغتيال وهجمات إلكترونية وهجمات سيبرانية متبادلة.، إلا أن التوتر بلغ ذروته في 2010 مع اتساع سياسة "تصدير الثورة" التي اعتمدتها إيران، من خلال دعم الميليشيات المسلحة في الدول العربية ذات الأنظمة الضعيفة والانقسامات الطائفية.
الميليشيات المدعومة من إيران، مثل الحشد الشعبي في العراق، الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، أسهمت في تعقيد المشهد الأمني وأججت الأزمات الإنسانية في المنطقة، وقد استغلت إسرائيل هذا التمدد الإيراني لتبرير هجماتها العسكرية على اليمن وسوريا ولبنان، في إطار مواجهتها للنفوذ الإيراني المتزايد.
تسعى إيران، من جانبها، إلى زعزعة الاستقرار في الإقليم عبر فتح جبهات متعددة، ما يضع الدول العربية بين خيارين صعبين: إما تجنب المواجهة المباشرة، أو البحث عن تحالفات دولية جديدة، وهو ما يدفع بعضها إلى نوع من التقارب التكتيكي مع إسرائيل.
الصراع الإيراني – الإسرائيلي لا يقتصر على البعد الأمني فحسب، بل يمتد إلى أبعاد اقتصادية خطيرة، لاسيما مع إعلان طهران استعدادها لإغلاق مضيق هرمز، الأمر الذي من شأنه تهديد التجارة الدولية وإمدادات الطاقة العالمية.
وفي ظل هذا التصعيد، تبقى الولايات المتحدة الأمريكية في موقف وصفه البعض بـ"المتردد"، حيث أظهرت دعمًا سياسيًا وعسكريًا واضحًا لإسرائيل، لكنها في الوقت ذاته تحرص على تفادي مواجهة مباشرة مع إيران، مما يزيد من تعقيد المشهد الدبلوماسي.
قد تجد النظريات السياسية نفسها عاجزة أمام تعقيدات هذا الصراع، إذ يصعب التوفيق بين مبدأ فرض السيطرة وتفادي الانزلاق نحو حرب شاملة، ومن هنا تبرز الحاجة الماسّة لتكثيف الجهود الدولية من أجل نزع فتيل الأزمة، وإعادة ترتيب الأولويات، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية التي يجب أن تتصدر أي مقاربة للحل.