قد لا نحتاجُ أن نرى الشخص أمامنا لنتعرف على فكره وعلى منطقه وعلى جماله، ولكننا نقدر على ذلك من غير أن نراه. وصورُ ذلك في الحياة كثيرة، فمثلاً نحن لا نقدر أن نرى الله سبحانه وتعالى ولكننا نقدر أنْ نلمسَ ماهيته من جمال خلقه وابداع يديه، "فالسموات تحدث بمجد الإله والفلك يخبر بعمل يديه"، إذ لا يمكن أن يشكِّلَ الإنسانُ رسماً أو فناً أو تعبيراً بعيداً عما يحتضنه في أعمق أعماقه من حب وعاطفة وجمال.
لذلك مرّ كثير من العظماء في عالمنا ولم نستطع أن نلتقي بهم أو أن نراهم، ولكننا نقدر أن نلمس قوة فكرهم وعمق أفكارهم وجمال قلوبهم من خلال أثرهم الذي تركوه بين أيدينا من أعمال فكرية وأدبية وشعرية وفنية وإنجازات عظيمة تتكلم من دون صوت، وتنطق من غير كلام، وتنبض بحكمة يمكن جسّها. فما أعظم هذه الآثار الملموسة التي من خلالها نقدر أن نستيعد الصورة التي شكلها هؤلاء الأشخاص ونستقرأ ما في بواطن قلوبهم وأفكارهم ونرسهم ملامح حياتهم بما حملت من قوة وعمق وجمال.
فعندما مثلاً نتأمل في لوحة فنية يَسرحُ بنا الخيال إلى عالم الفنان الذي قام على رسمها وعلى الرسالة التي ينوي إيصالها لنا عما يجول في باله من فرح أو حزن أو تعبير يعكس الصورة التي تجول في خاطره، فنتعرَّفَ على شخصه من غير أن نراه وكأنَّ عملَهُ الفني هو شهادة سيرة ذاتيه تعكسُ جانب هام من جوانب حياته.
لذلك كم نحتاج أنْ يهبَنَا اللهُ عيوناً ترى وتقرأ حقيقة عالمنا من خلال الملموسات التي بين أيدينا والتي توصَّلَ إليها العقل البشري من اختراعات وابتكارات وتنكلوجيا معلومات واتصالات، وهي كثيرة، فمن خلالها نقدر أن نتعرف على عالمنا وشخوصه بطريقة أعمق. وبالأكثر نقدر أن نتعرف على خالق الكون الذي خلق فأبدع في خلقه، ورسم فأبدع في فنّه. فالطبيعة تبقى مصدر من أهم مصادر رسم الصورة التي نشكِّلُها عن مُوجِدها وخالقِها ومبدعِها.
وهذه دعوة لنا أن نترَّفَقَ بعالمنا ونعتني به نحافظ عليه من التلوث والإستنزاف والتشويه، فهو لوحة فنية ثمينة علينا أن نحافظ عليها وأن نصونها من أي عبث ومن طيشِ المستهرين بها، وهذا معنى أن مسؤولية أن نصون الطبيعية وأن نحافظ على البيئة لأن ذلك جزء لا يتجرأ من إيماننا الذي يَغتني وَيَكبَرُ ويقوى من خلالِ التأمل في جمالها وابداعها وفنِّها الفائق الوصف.