عند الحديث في فقه علوم الأديان ، يبرز الحديث عن الإسلام و مكانه ما بين الديانات السماوية الأخرى ، هوية فكره و اركان نهج مساره و حكم علاقته و الإنسانية ، لنجد ، أنه ليس دينًا لطائفة أو فئة خاصة، بل هو رسالة كونية للإنسانية كلها، تحتضن في جوهرها كل الرسالات السماوية، وتستهدف بناء منظومة هي مصفوفة قيم تنظم حياة الإنسان وعلاقاته مع نظرائه في الخلق و خالقهم على أسس فلسفة الفطرة السليمة و الفكر القويم ، هدفها ادراك ربوبية الواحد الاحد الفرد الصمد.
من يتدبر هذا المعنى يدرك أن الإسلام ليس حكرًا على طقوس جامدة، بل مشروع حضاري شامل يعبر عن صلة بين الخالق والمخلوق من خلال الحوار، والإيمان، والعمل.
وقد خُلق الإنسان مميزا بملكة التفكير وحرية الاختيار و قدرات التدبير ، ليكون قادرًا على التفاعل مع متغيرات الحياة و تحدياتها، ولكن تبقى الفطرة رهينة بصفاء النفس أو عكر هواها . وهنا يظهر الانقسام: فبينما ترى بعض الفئات في الإسلام مشروعًا حضاريًا مفتوحًا على الثقافات والحضارات، في حين اختزله البعض الآخر في ممارسات مغلقة وطقوس منغلقة، جعلته سجنًا فكريًا لا يسمح بالتفاعل ولا بالحوار، بل يقدس الجمود ويخاصم التجديد ، و هو ذاته عند باقي اتباع الديانات التي ترى فيها نصوص للقراءة لا للفعل و العمل و الهداية.
المقدمة لا تعكس هوية مقال عن حوالي الأديان انما هو توطأة ، لظاهرة ما يُعرف بـ"اليمين الديني السياسي" و هي ظاهرة ليست عربية محلية فقط، بل ظاهرة عالمية ، عابرة للقارات ، تمددت و تشعبت ، للتفرع منها قوى سياسية تحت عباءات مذهبية طائفية ، احتكرت الاحكام و القرارات بحكم وصاية و تفويض الخلافة الربانية .
منطقتنا العربية شهدت أسوأ تجليات صور هذا التيار ، سواء في نسخته الإسرائيلية ذات الطابع التلمودي التوراتي المتطرف المحرفة الذي يدعي مظلومية المحرقة التي تعرض لها و يحرم إنكارها بينما يقر حاخاماته جوازها لغيرهم ، أو تلك العربية المتمثلة في نسخة التنظيمات ذات الخلفية الإخوانية، التي دخلت المجال السياسي تحت راية الدين ، رافضة التعددية و اي رأي يخالفها .
السؤال الجوهري: ماذا قدم هذا التيار؟
اين المنجزات و عوائد المشاريع نفعا للإنسان المنطقة على الأقل ؟
حين نتأمل سجل هذه التيارات بعد وصولها إلى السلطة، نجد أن الحصيلة كانت كارثية ومؤلمة. فبدلًا من تحقيق نهضة حضارية أو إصلاح سياسي، تورطت هذه التيارات في إدارة المؤامرات المؤلمة التي عمقت الأزمات وإثارة الصراعات و اعاقة في كافة الملفات السياسة الخارجية أو الداخلية الاقتصادية أو التعليمية أو الثقافية.
ولفهم ذلك، يكفي النظر إلى ما حدث طول قرن :
نكبة و نكسة و مجازر بالجملة ، حرب أفغانستان والشيشان وكوسوفو، حيث تم تشكيل جماعات جهادية وُظفت كأدوات في صراعات القوى الكبرى.
ليبيا واليمن والعراق ولبنان وسوريا، حيث ساهمت هذه التيارات في تعميق الانهيار والفوضى.
غزة، التي تحولت إلى منصة لحصان طروادة لهندسة جيوسياسية جديدة للمنطقة، بدلًا من أن تكون نموذجًا للمقاومة الراشدة.
في المحصلة، خسرنا على كل المستويات: انكمش حضورنا الدولي، وتراجعت مكانتنا، وازداد الاحتقان الشعبي، وضعف الاقتصاد .
رغم أن العالم العربي يملك كل مقومات النهضة الحضارية والعلمية والاقتصادية، إلا أن التيارات السياسية اليمينية وضعت هذه الإمكانيات في خدمة أجندات غير وطنية، عبر خطاب ديني مشحون بالعاطفة والشعارات، يخاطب العامة دون مساءلة أو مراجعة.
لقد تحول الدين إلى وسيلة لخلق رأي عام غير مدرك، تسيره العواطف لا العقول، ويجعل من الخطاب الديني أداة لحشد الجمهور في اتجاهات تخدم قوى خارجية، تستثمر في الفوضى وتعميم الصراع، سواء بين الدول أو داخلها.
جميع التنظيمات المتطرفة على اختلاف مذاهبها وأيديولوجياتها
لا تملك هوية فرعية تميزها، بل يجمعها فكر واحد: فكر ضال، يقوم على الحقد والتشدد والانتقام. كوادر هذه التنظيمات تمّت تعبئتها نفسيًا وفكريًا بطريقة مغلقة ومشحونة، تفتقر إلى الوعي الحضاري أو الأفق الإنساني، وترى العالم من زاوية حرجة ضيقة.
التقت مصالح هذه التنظيمات مع مصالح قوى دولية أو إقليمية، فتم تمويلها وتوظيفها لتفجير المجتمعات من الداخل، تحت شعارات زائفة عن الشريعة أو الثورة، فيما الحقيقة أنها كانت أدوات في مشاريع أكبر منها.
اليمين الإسرائيلي المتطرف واليمين العربي الإخواني يلتقيان في رؤية متطرفة للعالم: كلاهما يؤمن أن قيام الساعة مشروط بإبادة الطرف الآخر. و كأنهما يعلمان الغيب! يعملان معًا، سرا و علنا على تغذية الصراع بدلا من إطفائه، و كأنهما يجهلان قول الله تعالى:
في المقابل، كان العرب الأقحاح أهل مروءة: "الشجاع هو آخر من يطلب الحرب"، أما اليوم، فكثير من الزاعقين أول من يطلبها، ثم ينسحب منها، و يخترع المبررات لإخفاقه.
التيار الديني السياسي، رغم لبوسه الديني، لم يكن يومًا مشروعا إصلاحيا حقيقيًا. بل كان غطاءً لفشل سياسي، وأداة لتصفية الحسابات، وتمزيق المجتمعات، وخدمة أجندات خارجية. والخاسر الأكبر هو المواطن، الذي ضيّعته الشعارات، وأتعبه الفقر و ضياع العمر و القهر ، تغرقه صوت ضوضاء المزايدات ، تمزقه المذهبية ، تتقاسمه المشاريع تعيده إلى جاهلية التبعية الرمزية العباد بدلا من الاتجاه إلى رب العباد .
ختاما اذا ما سألنا من فينا الرابح؟
هو من وضع مصلحة وطنه وأمته فوق كل اعتبار، وعرف أن الدين رسالة إصلاح لا منصة صراع.