نيروز الإخبارية : ضمن سلسلة المحاضرات الشهرية التي تعقدها الجمعية الفلسفية الأردنية، قدم الأستاذ ناصر الخوري محاضرة تحت عنوان "فلسفة الدين في فكر أديب صعب". تناول المحاضر الكتاب الأبرز للفيلسوف والشاعر اللبناني العربي الدكتور أديب صعب، المعروف باسم "المقدمة في فلسفة الدين". شدد المحاضر في بداية حديثه على أن هذا الكتاب يشكل تأليفًا أصيلًا في مجاله على الصعيد العربي، لجهة منهجه ومنطقية تسلسل موضوعاته التي عالجها الدكتور صعب بموضوعية علمية اتسمت بالعمق والشمولية والعودة إلى المصادر الأصلية، فضلًا عن لغة الكتاب التي تتوخى الدقة والبساطة والوضوح في طرح المفاهيم من جهة ونقدها الحصيف من جهة أخرى.
أطروحة الكتاب الأساسية تتركز على نقد فلسفة ديفيد هيوم ومدرسته الفلسفية المناوئة للدين. والمؤلف يرى ضرورة نقد هذه الأطروحة كشرط لقيام فلسفة دين حقيقية. ولما كانت الفلسفة، في أحد مراميها الرئيسة، هي الدفاع والتبرير، فإن فلسفة الدين هي دفاع عقلي عن الدين، أي دين، في وجه المدارس الفلسفية الرافضة للأديان. إذ يقول صعب: "إذا لم الدين بمعناه العام مبررًا، فلا يمكن تبرير هذا الدين أو ذاك". من هنا، انطلق المؤلف من المشتركات بين جميع الأديان التي درسها دراسة موضوعية وصفية في كتابه السابق "الأديان الحية". وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف لا يدعو إلى تذويب الأديان في دين واحد، لكنه يركز على المشتركات الجامعة مع احترام أكيد لخصوصية كل دين.
جاءت فصول "المقدمة في فلسفة الدين" لتخدم أطروحة المؤلف المركزية. فبعد التمهيد، استهل المؤلف كتابه بفصل حول ماهية الدين، ثم انتقل إلى فصل عن الدين والفلسفة، ثم فصل عن وجود الله، ثم تتابعت الفصول عن الخبرة الدينية والعجيبة ومسألة الشر والدين والأخلاق، وختم بفصل عن الوجه الآخر للحياة. وفي هذا التتابع المنطقي للموضوعات، عرض المؤلف جميع الآراء الفلسفية عرضًا موضوعيًا ثم انتقل إلى النقد مقدمًا رؤيته الفلسفية البديلة.
ومن هذه الفصول ما جاء في فصل العجيبة أو المعجزة، إذ قام المؤلف بتفنيد فلسفة ديفيد هيوم الرافضة، من حيث المبدأ، لإمكانية حدوث المعجزة أصلًا بوصفها خرقًا للنظام الطبيعي، وكأن النظام الطبيعي قائم بمعزل عن الله الذي خلقه. هنا يرد الدكتور صعب بأن النظام الطبيعي مخلوق من الله، ولا شيء يمنع الله لحكمة منه من أن يتدخل في نظامه الطبيعي من خلال المعجزات. غير أن المؤلف يرى أن المعجزة الحقيقية تكمن في عملية الخلق نفسها، معتبرًا أن المعجزة هي معجزة الخلق وليس الخرق على حد تعبيره. وفي مسألة وجود الشر الباعث على رفض وجود الله الكلي القدرة والكلي الصلاح، فإن المؤلف يعتبر أن كثيرًا من المسائل اعتُبرت شرًا في حين أنها تنتمي إلى واقع محدودية الإنسان وحريته، وبالتالي هي ليست شرًا في ذاتها. فهذا العالم مخلوق وكل مخلوق محدود بالضرورة، كما أن عالمًا خاليًا من الشر والألم والمحدودية هو عالم ملائكي لا دور فيه للإنسان المدعو إلى تحقيق ذاته ضمن هذه المحدوديات. ومن مقولات المؤلف الشهيرة: "لا دين بلا فلسفة ولا فلسفة بلا دين"، وقصد بذلك أن الأديان استندت إلى الفلسفة للدفاع عن مقولاتها العقدية، كما أن الفلسفة، في أصل نشأتها، تناولت مسائل دينية، وخير مثال على ذلك نظرية عالم المُثل عند أفلاطون.
بعد استعراض سريع لكتب أديب صعب الخمسة التي تدور حول فلسفته العقلية عن الدين، تكلم المحاضر عن المبدأ الناظم لمشروع المؤلف الفلسفي وهو "فلسفة الوحدة في التنوع". أي أن التعدد والتنوع سمة المجتمعات الإنسانية على امتداد التاريخ كله. ومن تطبيقاته لهذه الفلسفة على صعيد الفكر السياسي العربي، فإن المؤلف يرى أن الدولة هي مركز الوحدة، سواء كان المجتمع متعدد الأديان والمذاهب أو حتى أحادي الدين، بحيث لا تتبنى الدولة دينًا بعينه بل تقف على الحياد الإيجابي على أساس "العلمانية اللينة" على حد تعبيره تمييزًا لها عن "العلمانية القاسية" التي تحارب الدين. هذه الدولة يعتبرها المؤلف "الدولة الدينية الفعلية" لأنها تجسد جوهر ما تدعو إليه الأديان والمتمثل في التساوي بين جميع المواطنين على أساس الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان، أما "الدولة الدينية الاسمية" فكثيرًا ما وقع فيها الظلم والاعتساف والاستبداد كما تفيدنا تجارب التاريخ.
في الختام، إلى جانب كونه فيلسوفًا أصيلًا، فإن أديب صعب شاعر طليعي صدرت له دواوين شعرية عديدة. فما كانت هذه المحاضرة لتنتهي دون أن يُلقي المحاضر قصيدة "أمة كسيحة" من ديوان "حيث ينبع الكلام" التي لاقت استحسانًا لدى الحضور كما المحاضرة. بعد ذلك، توالت أسئلة الحضور وتعقيباتهم.