في زمن يتكاثف فيه الضجيج وتتسارع فيه الإشاعة على حساب المعلومة، تواجه الدول تحديًا مركبًا يتمثل في القدرة على حماية سرديتها الوطنية، دون التفريط في قيم الشفافية أو التورط في ردود أفعال انفعالية. وفي هذا السياق، يظهر أن ما يخدم الدولة الأردنية، ليس الانجرار وراء موجات الإنكار أو التبرير، بل اعتماد الحُجّة الذكية كأداة تفكيك، ووسيلة بناء، ومصدر قوة.
فالحقيقة حين تُعرض بذكاء، وتُدعم بالبيّنة، وتُصاغ بلغة واثقة غير متشنجة، تصبح أبلغ رد على أي محاولة للتشويه. والإشاعة لا تنهزم بالصوت المرتفع، بل تذوب حين تُواجه بتفاصيل موثقة، وسياقات واضحة، وخطاب متماسك يمنح المتلقي احترامًا لعقله، لا أوامر لذهنه.
لكن هذا لا يتحقق دون منظومة من ثلاث ركائز مترابطة:
أولًا: الحُجّة الذكية بدل الرد الانفعالي
إن الانزلاق إلى معارك خطابية مع من يمتهنون التضليل لا يخدم الدولة، بل يمنح التشويه شرعية الندّية. والبديل الاستراتيجي هو استثمار أدوات التحليل والخبرة والبيانات في تفكيك الخطاب المغرض، لا الاكتفاء برد فعل عابر. فحين تأتي الحجة من منطلق هادئ وواضح، محمّلة بالمنطق، تصبح هي السردية التي تسود، وتُفقد الإشاعة أثرها.
ثانيًا: إعلام وطني يقظ لا تابع
الإعلام ليس مجرد صدى للبيانات الرسمية، بل يجب أن يكون أداة استباق ومناعة، تحمي المجتمع من الفراغ الذي تتسلل منه الإشاعة. ويُنتظر من الإعلام الأردني – العام والخاص – أن يطور أدواته المهنية، ويعزز ثقته بالجمهور عبر منتج إعلامي محترف، متحرر من النمطية، حاضر في الفضاء الرقمي، شفاف في الطرح، وعميق في التحليل. فلا مواجهة فعالة دون إعلام يتقن الإنصات كما يتقن التصدي، ويتعامل مع المتغيرات بخبرة لا بردود أفعال.
ثالثًا: تشريعات متزنة تحمي ولا تكمم
في عصر منصات التواصل، لم يعد كافيًا أن نعوّل على الرد وحده. بل لا بد من إطار قانوني عصري، يُميز بوضوح بين حرية التعبير وحرية التزييف، وبين الرأي العام المشروع وحملات التشويه المنظم. وتحتاج الدولة إلى تشريعات مرنة، تردع المغرض دون أن تردع الناقد، وتحمي الفضاء الوطني دون أن تخنق التعددية، وهو توازن دقيق لكنه ممكن حين تتكامل الإرادة التشريعية مع الوعي المجتمعي.
ختامًا
ما يخدم الدولة الأردنية اليوم، في هذا العالم المزدحم بالإثارة، هو تبني خطاب مؤسسي واثق، يتسلح بالحقائق لا بالشعارات، ويُعيد الاعتبار للمنطق في زمن الفوضى. فالسيادة لا تُصان بالصوت العالي، بل بالثقة الهادئة، والحقيقة حين تُقال باحتراف، تكون أقوى من ألف نفي، وأمضى من أي قانون.