في حضرته، تصغر الكلمات وتخجل المعاني، في حضرة من علّمني أن القلم رسالة أن الكلمة أمانة، أن العلم ليس مهنة بل طريق حياة. والدي، الأستاذ محمد عبد القادر، لم يكن يومًا مجرد معلم صف، بل كان صانع أجيال، ومرشدًا للقلوب قبل العقول، وأب حنون يحتوي قلوب طلابه.
أذكر صوته الهادئ حين يعود من المدرسة، يحمل على كتفيه تعب النهار وابتسامة رضا، كان يحدثنا دائماً عن طلابه وعن أحلامهم الصغيرة، عن طفل يجتهد رغم الفقر والفقد، عن طالب يضيء الصف بحلمه البسيط: أن يصبح طبيبًا، كان يحفظ أسماءهم وكأنهم جزء من عائلتنا.
كان التعليم يستمر في بيتنا لم يكن يشرح لنا دروس الرياضيات أو اللغة، بل كان يعلمنا الصبر، كيف نكون منصفين في أحكامنا، كيف نصغي قبل أن نحكم، كان يعامل الجميع باحترام من مدير المدرسة الى عامل النظافة، كان يقول لنا دائمًا: "الكرامة ما الها زي، حافظ عليها في كل موقف".
مرت سنوات وغادر والدي المدرسة لكنه لم يغادر قلوب طلابه، أينما أذهب اسمع من يقول لي: "أنت ابنة الأستاذ محمد؟ علمني كيف أقرأ.. كان أب قبل أ، يكون معلم".
أبتسم فخورة لأن الإرث الحقيقي لا يقاس بالمال أو المناصب، بل بالأثر الذي نتركه في حياة الآخرين.
تعلمت من والدي أن المهنة النبيلة لا تحتاج الى أضواء لتتوهّج. يكفي أن تكون صادقاً، مخلصاً، وأن تزرع بذور الخير دون أن تنتظر ثمراً، واليوم، أنا اكتب هذه السطور، أدرك تماماً أنني لست فقط ابنة معلم، بل ابنة رجل عظيم عاش للناس وترك في كل قلب أثراً لا يُمحى.