إبراهيم السواعير 

"يا يوسف؛ لولا مدينة الحسين الطبيّة شو صار فينا!".

الحديث لجلالة المغفور له الحسين بن طلال طيّب الله ثراه، والراوي هو الفريق الطبيب يوسف القسوس، متحدثاً عن الساعة الصعبة في حياته؛ بل القرار الأصعب في مكاشفة الحسين رحمه الله بمرضه؛ فهو الحسين الذي أصرّ ألا يتمّ التحوير في صيغة الخلايا السرطانيّة لشعبه الوفي الذي كان بالرغم من هطول الأمطار بغزارة  يواصل احتشاده داخل حرم المدينة الطبية وخارجها وأمام مركز القلب عام تسعة وتسعين وهم يبتهلون إلى الله أن يمنّ على حادي ركبهم الحسين بالشفاء.

لم يكن سهلاً على الطبيب القسوس حافظ دقّات قلب الحسين والمتحرّك مع نبضاته المحبّة للناس والإنسانيّة والعالم، أن يتقبّل الساعة الحادية عشرة وثلاثاً وأربعين دقيقة من يوم الأحد الموافق 7 شباط عام 1999؛ الساعة التي أسلم الحسين فيها الروح لبارئها، وأُقيمت إثرها الجنازة المهيبة، جنازة القرن العشرين. 

الأهمّ من دراسة الطبّ والاحتراف فيه، هو التعلّم من مدرسة الهاشميين وأخذ الحكمة منهم، يقول القسوس، وهو يستذكر بداياته وتاريخ العشيرة والصبر على الشدائد وفراق الأحبّة، والفرح بكلّ إنجاز جديد لرجل، حين تستمع إليه، تحسّ أنّك أمام رجل تاريخ أو نسّابة، يؤرّخ للأحداث فيصهرها بمصهر المُحبّ ومبضع العارف الحكيم، فهو يوسف القسوس المنتمي إلى عشيرة الهلسة، إحدى العشائر المسيحية العربية في الكرك، بل اللحن الكركيّ الذي يتماوج معه وهو  يتحدث عن النسيج الأردنيّ الواحد، باسطاً للحديث رجالاتٍ من هذه العائلة التي لعبت دوراً محورياً منذ تأسيس إمارة شرقي الأردن، ذاكراً الشيخ عودة باشا القسوس، والخوري عودة أبو الشوارب، والدكتور حنا باشا سلمان القسوس، ويعقوب حنا العودات"البدوي الملثّم"، وأسماء أخرى لا تبرح الذاكرة، يحتفظ لها بقصص كثيرة من النجاح وصدق العزيمة.

وعلى قصص التواشج الإسلاميّ المسيحيّ، نشأ القسوس يروي صوراً فريدةً ورائعةً من صور الألفة التي جسّدها الأخوة المسلمون في علاقتهم الوطيدة بعشيرة الهلسة وغيرها من العائلات الأردنيّة؛ لدرجة أنّ وجهاء المسلمين في الكرك قد اصطحبوا الشقيقة الكبرى للشيخ إبراهيم القسوس الذي بلغ من العمر الستين من عمره في العقد الأول من القرن العشرين، وأنجب ابنتين اثنتين ولم ينجب ولداً ليخلفه في زعامة العشيرة، وذهبوا إلى القدس ليحظوا بإذن ومباركة البطرك ليتزوج الشيخ إبراهيم مرةً ثانية، على أمل استمرار زعامته، وهكذا كان، فأنجب من الزوجة الثانية أربعة أبناء من الذكور.

يؤرخ القسوس لولادته، بذلك اليوم من أيام شهر آب اللهاب، في الثامن عشر من عام 1939، في المستشفى الإيطالي بالكرك، فلم تكن الولادة في ذلك الحين بالأمر الهيّن على الأمهات اللواتي لم تكن المستشفيات ولا القابلات القانونيات في متناول أيديهنّ، إذ كانت الداية سيدة الزمان والمكان، أما والدُهُ موسى القسوس فمن مواليد قرية حمود بالكرك عام 1908، حدَتْ به ظروف الحياة والعمل إلى أن يغادر صوب عمان، لتكون المغادرة الأخيرة له بعد نضال طويل مع الحياة عام 1983 إثر مرض عضال، فانطفأ قلبه وغاب بصمت، رغم ضجيج الدنيا التي عاشها من أجل عائلته، وهو يترك أثراً طيباً، فقد كان رجلاً أردنياً عربياً خالصاً، إسلاميّ الثقافة ومسيحيّ الضمير والوجدان، كما يقول القسوس الذي كان نصيبه من أبيه ثروة من القيم منحته الحبّ والحكمة والصراحة وخريطة طريق لحياته، أمّا والدته وردة العودات، ابنة عم الأديب يعقوب العودات، فهي مثال لربة المنزل التقليدية التي تكدّ وتتعب في سبيل تربية عائلة متماسكة وناجحة.

يصف القسوس الراحل الحسين بأنّه مدرسة؛ كنّا نشعر أمام هيبته أننا كالطلبة الذين تستودعهم أمهاتهم صبيحة كلّ يوم وعقولهم متعطشة للعلم والمعرفة، مستعيداً عام سبعين الذي أجرى فيه فحوصات طبيّة للمرحوم الذي كان يعاني من عدم انتظام في ضربات القلب، متنافذاً على أجواء محمومة كانت تشهدها الساحة الأردنيّة؛ وبالرغم من ذلك كان الحسين شجاعاً مع جنوده، يزور الجرحى من الفدائيين في المستشفى الرئيسي بماركا، بل إنّ الحسين ضرب أروع الأمثلة في التعبير عن الأردنّ جزءاً من أمّته العربيّة، مثل إصراره على السفر إلى مصر بالزي العسكري في التاسع والعشرين من أيلول عام سبعين لحضور جنازة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، في ظروف صعبة.

"لو أنني لم أكن ملكاً لكنت طبيباً".. عبارة يقدّرها القسوس كثيراً، ارتجلها الحسين للقسوس في مركز القلب بهيوستن عام سبعة وسبعين، وقتها ذهب الحسين لتهنئة الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، وأبدى رغبته بإجراء فحوصات طبيّة أشرف عليها القسوس، فحضر عملية  قلب مفتوح مباشرة في المركز، واحتفت به الصحافة آنذاك.

لم يكن سرير الشفاء عام 89  ليثنيه عن القيام بمسؤولياته وواجبه الوطني، ففي مرافقة القسوس للحسين إلى لندن لإجراء فحوصات طبيّة متقدّمة، خصوصاً وأن موعد سفره كان يسبق إجراء الانتخابات النيابية التي أعادت عجلة الحياة الديمقراطية في المملكة للدوران، كان الحسين يتحدث للقسوس والدكتور سمير فراج وأيمن المجالي في الطائرة عن سعادته بذلك الحدث الوطني الكبير، ويمنّي النفس بأن تفرز الانتخابات مجلساً نيابياً يليق بالتجربة البرلمانية العريقة.

كان الحسين قَدَرياًّ ومؤمناً ومتقبلاً لكلّ ما يواجهه، إذ كان رحمه الله يؤدي الصلاة بخشوع، ويثق بقضاء الله، ويكرّر قوله للقسوس: "عاملني كمريض عادي وليس كملك!"..

تنقّل القسوس في مراحل تعليمه بين ثلاثة أمكنة، بدأها في الأجفايف- الصفاوي منتصف الأربعينيات حتى الخمسين من القرن الماضي، نظراً لطبيعة عمل والده في شركة نفط بالعراق، ثم في مدرسة المطران بعمان  حتى أواخر الخمسينيات، لتتوج الرحلة بجامعة عين شمس بمصر حتى أواسط الستينيات، فقد كان والده يطمح إلى تعليم ابنه في ظلّ وضع اقتصادي صعب لم يكن التعليم فيه بالمتاح.

وفي ذكرياته بمدرسة المطران، يعود القسوس إلى ذلك الصرح العريق من صروح التربية والتعليم، المدرسة التي تعدّ من أقدم مدارس الأردن وتأسست أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي كأول مدرس أهلية غير حكومية في الأردن تضمّ قسماً داخلياً، وباعتبارها منارة علمية ضمّت  طلبة من كلّ فئات المجتمع من بدو وفلاحين وسكان مدن وأبناء تجارة وعاملين في سلك الدولة.

وخلال دراسته، واكب تتويج جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه ملكاً على المملكة الأردنية الهاشمية عام 1953، وكان حصول القسوس على شهادة التوجيهي المصري عام 1958 أول استحقاقاته لمتابعة دخوله الجامعة، تبعاً للنظام التعليمي الذي يشترط تلك الشهادة للقبول في الجامعات المصرية، على عكس الجامعات السورية والعراقية واللبنانية التي لم تكن تشترط ذلك على الطلبة الأردنيين وغيرهم، لأنها كانت تقبل شهادة المترك لدخول الجامعة، وبالتالي فإنها كانت توفّر سنة دراسيّة كاملة على الطالب.

كانت المدرسة السعيدية بمصر حلماً للكثيرين، كأكبر مدرسة ثانوية في الشرق الأوسط، وهي التي تم إنشاؤها في عام 1908 بسراي الأميرة جميلة، وقد قُبل الطالب يوسف القسوس في كلية الطب بجامعة عين شمس في أحداث قيام الثورة العراقية وتوقف رحلات الطيران، وهو ما اضطره إلى أن يذهب إلى سوريا ليلتحق بالجامعة مستقلاً سيارة أجرة إلى مصر، في ظل الجمهورية العربية المتحدة بين الدولتين عام 1958.

توجّه القسوس إلى التخصص في أمراض القلب، خصوصاً وقد قيض الله عقولاً وصفها بالعبقرية والنبوغ، في العلم واستيعاب المصطلحات والمفردات والمكتشفات الجديدة في حقول التخصصات، وفيما بعد يستذكر القسوس أنّ الظروف شاءت أن يلتقي بأستاذه الدكتور محمد عطية أستاذ أمراض القلب، الطبيب الخاص للرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، خلال زيارته بداية الثمانينيات، عندما كان القسوس مديراً لمركز الملكة علياء لأمراض وجراحة القلب.

لم ينتظم القسوس في حزب سياسي أو أيّ عمل غير الدراسة والمواظبة عليها كهدف نبيل وجاد، فكان أن حصل على تقدير عالٍ في منتصف الستينيات، ليواصل الاختصاص، كما لم ينل قسطاً من الراحة في قبول التهاني، حتى كان صيداً ثميناً تتنازع عليه وزارة الصحة والقوات المسلحة، فهي أحقّ به من أيّة جهة، كما رأى الدكتور عبدالسلام المجالي، خاصةً وأنّ القانون كان يفرض خدمة العلم لمدّة عامين، فلم يجد نفسه غريباً عن نظام الضبط والربط والجدية في هذا المجال.

ثلاثة وثلاثون عاماً في حياة القسوس المهنية منذ 1967 حتى عام 1999، يرويها ويروي معها قصّة نجاح الخدمات الطبية الملكية والموقع المتقدم الذي وصلت إليه، مستذكراً المحطات الأولى التي شكّلت انطلاقتها عام 1941، بطبيب أجنبي وبعض العلاجات والأدوية، لتصل اليوم إلى هذا المستوى المرموق، فقد كانت مدينة الحسين الطبية التي أنشئت عام 1973 مركزاً تحويلياً وتعليمياً للخدمات الطبية الملكية، وفي ذكرياته يسرد القسوس عمله في المستشفى العسكري بماركا وفرحته بالزي العسكري وعبق الافتخار، ليمرّ على أحداث حرب حزيران 1967، والواجب الإنساني والتحديات الكبيرة، ومعركة الكرامة عام 1968 وما تلاها من أحداث.

ابتُعث القسوس إلى المملكة المتحدة أواخر الستينيات، وفيما بعد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليعود إلى الأردن عام سبعين رئيساً لشعبة الأمراض الباطنية في المستشفى الرئيسي في ماركا، ويستذكر إجراءه أول عملية قلب مفتوح في الأردن عام 1970 حيث قام والدكتور فؤاد الكيلاني بتشخيص حالة لفتاة تبلغ من العمر ثماني عشرة سنة، وكانت تلك العملية بمثابة قفزة نوعية في تقدّم الخدمات الطبية الملكية التي واكبت المزيد من الاختصاص والتقدم في مجال الطب.

كما ابتُعث عام اثنين وسبعين إلى الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذاً لتوجيهات جلالة الملك الحسين بن طلال، إلى حيث مركز هيوستن تكساس للتدرب المتقدم على تشخيص وقسطرة القلب وتلوين الشرايين التاجية، فكان العمل شاقاً ومتعباً استأنف بعدها القسوس بعد حصوله على شهادة الزمالة في أمراض القلب عمله في الأردن بمدينة الحسين الطبية، حيث مركز الملكة علياء لأمراض وجراحة القلب عام 1982، كمفخرة طبية أردنية وإنجاز هاشمي، ليكون القسوس مديراً لمدينة الحسين الطبية من عام 1990 حتى 1991 ومديراً للخدمات الطبية الملكية حتى عام 1999.

تمضي المسيرة المهنية للقسوس، فيتدرج بالرتب العسكرية التي تعلو كتفه بثقة ملكية عزيزة، فيتقدم إلى قيادات الصف الأول في تحمل المسؤولية، حيث إنجازاته في "المرشد العلاجي للخدمات الطبية الملكية" عام 1993، وموضوع التصنيف الفني، والمجلة الطبية العلمية، والنشرة الدورية للخدمات الطبية الملكية، والابتعاث، علاوةً على العديد من المؤتمرات والندوات والمحاضرات والأيام العلمية، ومشروع توسعة مركز الملكة علياء لأمراض وجراحة القلب، والعديد من المستشفيات، مثل مستشفى الأمير هاشم في الزرقاء، والأمير زيد في الطفيلة، والأميرة هيا في العقبة، ومشروع بناء مركز الأميرة إيمان بنت عبدالله الثاني للبحوث والعلوم المخبرية، وكلية الخدمات الطبية الملكية للمهن الطبية المساندة، وكلية العلاج الوظيفي، وكلية الأميرة منى الجامعية للتمريض،... وغير ذلك، من اتفاقيات مهمة مع دول وجهات ذات علاقة.

اليوم... يكحّل القسوس عينيه بمسيرة تستمرّ من الملك الباني إلى الملك المعزز، ونهوض جلالة الملك عبدالله الثاني بالأردن في التعليم وكلّ المجالات والحياة الديمقراطية وسن التشريعات وتعزيز دور الأردن في القضايا العربية والعالمية، وكلّ هذا العطاء الكبير.

المصدر جريدة الرأي.