يعتقد كثيرون أن خدمة العلم وتدريب الشباب على السلاح ومهارات الميدان هي السبيل الوحيد لاستنهاض طاقاتهم وإشراكهم في الدفاع عن الوطن. غير أن هذا التصور، وإن كان يحمل قدرًا من الصحة، يبقى تقليديًا ومحدودًا إذا ما قورن بطبيعة الحروب الحديثة بعد الثورة التكنولوجية الهائلة في مجالات التصنيع الحربي والذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني.
فالمعارك اليوم لم تعد مجرد مواجهات البندقية والمهارة في التخفية والتستر ، بل تحولت إلى صراع عقول وتقنيات، حيث تتقدم الجيوش التي تملك أفضل الأسلحة التي طورتها اذكى العقول وانبهها . من هنا فإن إعادة النظر في مفهوم "خدمة العلم" لم تعد ترفًا، بل ضرورة وطنية ملحّة.
والسؤال الذي يطرح نفسه لِمَ لا يتسع مفهوم خدمة العلم ليشمل توظيف الطاقات الشابة المتخصصة في الكيمياء والفيزياء والهندسة وتكنولوجيا المعلومات والطب؟ ولماذا لا يُصهر هؤلاء في مراكز بحثية وصناعية، ليكونوا قوة مضافة تسهم في تطوير تقنيات عسكرية حديثة تعزز قوة الردع، أو ابتكارات طبية وصناعية ترفد الاقتصاد الوطني وتزيد مناعته؟
لقد أثبتت التجارب العالمية أن العقول لا تقل أهمية عن السلاح:
في إسرائيل مثلًا، تحولت الخدمة العسكرية إلى مصنع للعقول المبدعة، حيث خرّجت قوات الدفاع لديهم آلاف الخبراء الذين أسسوا شركات تقنية غزت الأسواق العالمية.
وفي كوريا الجنوبية، استُثمرت الخدمة الوطنية لتعزيز الانضباط والبحث العلمي معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتكنولوجية وضعت البلاد بين أقوى اقتصادات العالم.
أما ألمانيا، فبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وجهت طاقات شبابها نحو البحث والصناعة بدل الاكتفاء بالبندقية، فنهضت خلال عقود قليلة لتصبح القوة الصناعية الأولى في أوروبا.
هذه النماذج تؤكد أن حماية الوطن لا تتحقق بالبندقية وحدها، بل بالفكرة والاختراع أيضًا.
من هنا، فإننا بحاجة إلى تطوير مفهوم خدمة العلم في الأردن ليصبح مشروعًا وطنيًا جامعًا. فإلى جانب التدريب العسكري الذي يعزز الانضباط ويغرس روح الانتماء، يمكن استثمار طاقات الشباب العلمية في المراكز الوطنية القائمة مثل المركز الأردني للتصميم والتطوير، والجمعية العلمية الملكية، ومراكز البحث في الجامعات، مع التوسع في إنشاء مراكز جديدة تستوعب الخريجين المتميزين من مختلف التخصصات. وبذلك نوحد الجهود الوطنية لرفد القوات المسلحة والوطن بأبحاث تسهم في تطوير الصناعات الدفاعية، ونحقق في الوقت ذاته ابتكارات اقتصادية وصناعية تعزز قوتنا الداخلية.
إن خدمة العلم، حين تُصاغ بهذا المفهوم الشمولي، تتحول من مجرد فترة تدريب عسكري إلى منصة وطنية كبرى، تُسخَّر فيها العقول والعضلات معًا لخدمة الأردن، فتكون البندقية والعقل جناحين متكاملين لحماية الوطن وبناء مستقبله.