إن من سخريات القدر أن تقود الصهيونية العالمية إعادة تشكيل العالم بسياسات هجينة، حيث يتحول أعداء الأمس إلى شركاء في الحكم والسياسة، بينما يُدفع حلفاء اليوم إلى زوايا التهميش والمقاطعة. هذه المفارقة تعبّر عن انقلابٍ عميق في توازنات السياسة الدولية، وتكشف عن اختلال حاد في المنهج الأميركي الذي كان يوصف سابقًا بالتوازن والبراغماتية. غير أن ما نشهده الآن من تقلبات يعود إلى التأثير المتصاعد للوبي الصهيوني والمنظمات الأميركية الداعمة لإسرائيل، وهو تأثير بات يُترجم إلى قرارات مصيرية تمس ملفات جوهرية في المنطقة.
وتتضح معالم سياسة هجينة تعيد رسم خطوط الولاء والخصومة بطريقة متناقضة، إذ يُعاد تدوير أعداء الأمس ليصبحوا شركاء في المرحلة الجديدة، في الوقت الذي يُقصى فيه حلفاء حقيقيون طالما حملوا لواء القيم والمبادئ الإنسانية. ويكفي أن نتأمل ما حدث مع الحقوقية الإيطالية فرانشيسكا ألبانيسا، مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، والتي لم تُدان لتورط أو فساد، بل عوقبت لأنها قالت الحقيقة بشأن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات. لم تشفع لها صفتها الأممية، ولا موقفها المنحاز للقانون الدولي، فتمت محاصرتها سياسيًا وإعلاميًا، وفرضت عليها عقوبات أميركية غير مسبوقة، في مشهد يُجسّد كيف يتم دفع حلفاء المبادئ إلى زوايا التهميش عندما تتعارض مواقفهم مع الحسابات الجيوسياسية الآنية.
في هذا السياق، تتضح معالم سياسة هجينة اخرى تتجاوز الاصطفافات التقليدية، وتتبنّى تحالفات مفاجئة، منها إعادة تدوير جماعات متطرفة، كجبهة النصرة السابقة (هيئة تحرير الشام حاليًا)، ومنح قائدها أحمد الشرع دورًا محوريًا في مشروع الحكم الانتقالي لسوريا. تتزامن هذه الخطوة مع تخفيف تدريجي للعقوبات الأميركية المفروضة على سوريا منذ عقود، والتي كانت ترمز إلى رفض النظام السابق بقيادة عائلة الأسد.
وتتوالى المفاجآت بإعلان إسرائيل استعدادها لدعم سوريا الجديدة في مواجهة ما تبقى من التشكيلات المسلحة الموالية لإيران في الجنوب السوري، في مشهد غير مألوف يعكس حجم التحولات التي تطرأ على مسار السياسات الإقليمية. كما يظهر توافق غير معلن بين السياسات الأميركية والإسرائيلية والتركية على دعم القيادة الجديدة في دمشق، في مقابل ضغوط تمارس على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لإلقاء السلاح والانخراط ضمن تشكيلات الجيش السوري الجديد، في محاولة لصياغة جيش وطني جامع يخدم مصالح الأطراف جميعًا.
إن هذا التماهي بين المتناقضات الأيديولوجية، وما يرافقه من صفقات غير معلنة، يعكس انتقال النظام الدولي إلى مرحلة هجينة، تخلط بين الواقعية السياسية والتفاهمات الأمنية غير التقليدية. ورغم ما يحمله هذا الواقع من تنازلات وتفاهمات على حساب المبادئ، فإن ما يعنينا في نهاية المطاف هو أن تنصف القيادة السورية الجديدة شعبها، وتمكّنه من بناء مستقبل مستقر بعد سنوات من المعاناة.
ولا يخفى أن الرئيس أحمد الشرع، حتى وإن اضطر إلى تقديم التزامات ضمنية لحماية مصالح اللاعبين الرئيسيين في الملف السوري، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وتركيا، إلا أن التجربة التاريخية تُعلّمنا أن مثل هذه اللحظات قد تحمل فرصًا نادرة. فكما نجح كونراد أديناور في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية في انتشال بلاده من الخراب وقيادتها نحو مصالحة شاملة وتحالف مع الغرب المنتصر، ربما تكون أمام سوريا فرصة مشابهة لإعادة بناء الدولة والانخراط في العالم العربي من جديد، تحت مظلة توازن نسبي تضمنه الولايات المتحدة ويحول دون تغول قوى إقليمية كانت يومًا ما جزءًا من المشكلة.
إن الدعوة إلى هذا التوازن ليست ترفًا نظريًا ولا خضوعًا لإملاءات الخارج، بل تنطلق من قراءة واقعية لمعادلات القوة التي تحكم المشهد السوري. فالتجاوب الجزئي مع مصالح الدول الفاعلة قد يكون، في هذه المرحلة، الثمن الضروري لانتزاع هامش من الاستقلال السياسي والاقتصادي يُتيح للدولة السورية إعادة بناء مؤسساتها وإنقاذ شعبها من حالة الإنهاك المستمر. ومن دون هذا التوازن، فإن أي محاولة لإقصاء الأطراف الدولية أو تجاهل نفوذها ستُعرّض التجربة الجديدة لخطر العزلة أو حتى الفشل المبكر، كما حصل في تجارب أخرى مشابهة. وفي المقابل، فإن تلبية تطلعات السوريين في الحرية والكرامة والازدهار تبقى الشرط الأساس لأي شرعية وطنية حقيقية، فلا يمكن لحكومة مهما حظيت بدعم الخارج أن تستقر وتزدهر ما لم تبنِ عقدًا اجتماعيًا جديدًا يستند إلى ثقة الداخل. إن هذا التوازن بين الواقعية السياسية والانحياز لمطالب الناس هو ما يُمكن أن يحوّل التحول الراهن من مجرد صفقة سياسية إلى بداية عهد وطني جديد.
إن العودة إلى الحضن العربي تبقى الهدف الأسمى، شرط أن تأتي من منطلق وطني سوري، لا على حساب السيادة ولا بثمن استرضاء المصالح الخارجية، بل عبر عقد اجتماعي جديد يفتح باب الأمل أمام السوريين لصياغة مستقبلهم بأيديهم.