خلف أبواب الغُرف المُغلقة تقبع المئات من قصص الألم والمعاناة والخسارات التي يندى لها الجبين لأولئك الضائعين في عالم الموت الصامت ، مراهقين وشباب بعمر الورود يذبلون يومياً مع كل جرعة يتعاطونها من تلك السموم ، بحثاً عن نشوة الحياة وسعادتها الواهمة ، لتتلاشى معها خطواتهم على طريق المستقبل ، وهم يحرمون الوطن من أثمن ثرواته التي يعوّل عليها لبناء القادم .
يبدأ المراهق أو الشاب رحلته المشؤومة في عالم المخدّرات غالباً بعد اجتماع عدد من العوامل التي دفعت به نحو هاوية الإدمان ، والتي يتمثّل أهمها فيما يتعرض له هؤلاء من ضغوط الأصدقاء بهدف إخضاعهم لأحكام الجماعة أو الزمرة حنى يكونوا مقبولين داخلها ، وتزداد هذه الضغوط باقتراب الأبناء من السنّ التي يسعون فيها لتحقيق الذات وإيجاد منظومة من المبادئ للانتماء إليها ، ما يجعل ضغط الأصدقاء متزايداً بما قد يؤثر في انحراف سلوكهم و ينتهي بهم في فخّ التعاطي والإدمان .
إنّ الانتماء إلى عالم الإدمان يعكس أثره بصورة مدمِّرة على مختلف جوانب حياة المتعاطي وأسرته والمجتمع بأسره ، حيث تترك المواد المخدّرة بتراكيبها السامّة أثراً حادّاً على وظائف المتعاطي العقلية ، وقدراته الذهنية ، فيتدنى تحصيله الأكاديميّ بسبب انخفاض مستويات اليقظة لديه ، إلى جانب التدمير البطيء لوظائف مختلف أعضاء الجسم ، كم أنّ المتعاطين غالباً ما يعانون من أعراض الاكتئاب وسلوك ممارسات عنيفة في تعاملهم مع الوسط المحيط ، الأمر الذي يدفعهم إلى البحث عن موّاد أشدّ أثراً للتخلص من نوبات الاكتئاب والرغبة في الانطواء على النفس الملازمة لهم دون جدوى ، وأمام مدّ الاكتئاب المتصاعد ينتهي الأمر بغالبيتهم بالانتحار بحثاً عن نهاية لآلامهم النفسية .
ولا يتوقف أثر الإدمان عند المتعاطي ، بل يتعداه إلى ما يُضيفه من تكاليف مالية على أسرته لتوفير ثمن المادة المخدّرة ، كما أنّ المدمن يعاني من كثير من المشكلات الصحية التي تتطلب كُلَفاً علاجية عالية ، ومع انخفاض القدرة الإنتاجية لدى المتعاطين من الشباب ، فإنّ الحكومات لا شكّ تتكبدّ خسائر كبيرة فيما يتعلّق بقدرات سوق العمل ومستويات الإنتاج فيه ، فتكون البطالة في أوساط مدمني الكوكايين والأفيون حتمية لما تتركه من أثر شديد على كفاءة المتعاطي ذهنياً وجسدياً ، وما تكلّفه من مبالغ كبيرة ثمناً لها ، ولا يمكن التغافل عمّا تتطلبه عملية مكافحة هذه الآفة من كُلَفٍ مالية عالية تنفقها خزينة الدولة على حساب المشارع الإنمائية والمرافق الحيوية ممايعود بالنفع على الصالح العام ، في سبيل حماية المجتمع من امتداد المشكلة إلى بقيّة أفراده ، ولا تتوقف حدود التكلفة عند هذا الحدّ فقط ، بل تتعداه إلى ما تتكلّفه الدولة لمواجهة السلوكيات العدوانية التي تنتج عن تعاطي المخدّرات ، والتي قد تنتهي في بعض الأحيان بحوادث إجرامية خطيرة ناتجة عن فقدان المتعاطي توازنه العقلي وحضوره الذهني ، أو بسبب سعيه لتوفير ثمن المادة التي يتعاطاها ، فيضيف بذلك رقماً إلى ما تعانيه مراكز الإصلاح والتأهيل أساساً من اكتظاظ بعدد النزلاء وتكاليف اقامتهم وإعادة تأهيلهم ، لا سيّما وأن المتعاطي بحاجة إلى علاج من الإدمان ضمن برامج عالية التكلفة ، ما يجعل عبء مهمة الأجهزة الأمنية يتشعّب في عدة اتجاهات لمواجهة معدلات الجريمة المتزايدة ، الأمر الذي يمثل تحديّاً امنياً واقتصادياً هائلاً .
كما أن طرق التعامل مع المواد المخدّرة من قبل العاملين في مجالها ؛ يتمّ بأساليب غير شرعية بهدف التخلص منها ، أو ما يرافق عملية تصنيعها وتركيبها من طرح لمخلفاتها النشطة في البيئة دون أدنى مسؤولية ،ما يشكّل فرصة لانتقال هذه المواد الخطرة إلى المياه الجوفية وأنسجة النباتات ،وأي مسؤولية تنتظر ممن باع روحه للشيطان ، وتحوّل إلى وحش شرس شره لايبالي سوى بما يُحصّله من أرباح هذه التجارة القبيحة المُحرّمة.
وحتى لا نقع في المحظور الذي لا يسهل التخلّص منه نظراً لأثر الاعتياد الذي تتركه المواد المخدّرة على المتعاطي ، فإنّ الأفضلية تُعطى لإجراءات الوقاية والخطوات الاستباقية المُلحّة التي يجب اتخاذها من قبل جميع فئات المجتمع ومؤسساته ؛ حيث تشكّل الأسرة خطّ الدفاع الأول عن أبنائها ، وذلك بما تقدمه لهم من استقرار وتوجيه ، فتحصنهم بما تُنشئه فيهم من قيم واتجاهات ، كما أنّ تخصيص جزء من اللقاءات الأسرية للحديث حول مشكلاتهم واستقبالها بعقل متفهّم وقلب عطوف ، سيعمل على توثيق الروابط مع الوالدين ، إضافة إلى ضرورة تجنّب الوالدين اتباع استراتيجية النعامة الفاشلة ، فغضّ الطرف عمّا يطرأ على سلوك أبنائهم من تغيرات ، وتركهم يواجهون تقلّبات مراحلهم العمرية وحدهم دون توجيه ، لن يأتي بالمفاجآت السارّة بالتأكيد ، وفي الوقت الذي يعمل فيه الوالدين على بناء شخصية الأبناء لتنمو على أسس متزنة وواعية بما يمنحونهم من الثقة ، فإنّ عليهم في ذات الوقت مراقبة فعالياتهم اليومية عن بُعد ، فيتعرفون إلى أصدقائهم والأماكن التي يرتادونها ، وإنّ انتهاج الوالدين سلوكاً حكيماً في حلّ المشكلات التي تمرّ بالأسرة ، والبُعد عن القسوة في تربية الأبناء ، والحرص على إكسابهم المهارات التي ترفع من قدراتهم المعرفية والبدنية ، إلى جانب تفعيل الوازع الديني في نفوسهم بما يمثلونه أمامهم من قدوات صالحة ، جميعها ولا شك ّ ستساعد في خفض نسبة تعرض الأبناء إلى ما قد يدفع بهم نحو الوقوع بين براثن المواد المخدرة .
ويأتي بعد ذلك دور المؤسسات التربوية من خلال ما تتبعه من استراتيجيات لبناء شخصية النشء على نحو تتكامل فيه عناصر البناء النفسية والعقلية والجسدية ، كما أنّ لهذه المؤسسات دوراً بالغ الأهمية في محاربة آفة المخدّرات ، من خلال ما تقدمه حول الموضوع في المناهج الدراسية ، والمحاضرات التوعوية بالتعاون مع إدارة مكافحة المخدرات ، إلى جانب تفعيل دور الأنشطة اللامنهجية كالمسرح والإذاعة والمؤتمرات واللجان الطلابية في المدارس والجامعات في التوعية بخطر المخدّرات ، وإنّ ضرورة لا بدّ من تفعيلها تتمثّل في ملأ أوقات الفراغ لدى المراهقين والشباب ، ومنحهم الفرصة لإثبات ذاتهم وقدرتهم على الإنتاج والإنجاز .
وبين الأسرة والمؤسسات التربوية تلعب وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء دوراً حيوياً ، إذ يمكن استغلال انتشارها الواسع في بثّ موادّ إعلامية من شأنها التعريف بالمخدّرات وآثارها الخطيرة ، الأمر الذي ينبغي أن يتمّ إعداده في ضوء ما تقدمه الدراسات العلمية وبيانات الأجهزة الأمنية المختصة ، كما يجب العمل على فلترة الموادّ الدرامية من الصور التي تقدم أبطال الأعمال الفنية في هيئة الرجل الثريّ ذي القوة والنفوذ المتأتية من تجارة المخدّرات ، والذي ينجح في التهرب من الملاحقة الأمنية لزمن طويل ، فلا يتمّ الإيقاع به إلاّ بعد أن يكون قد تقدم به السنّ ، وتمكّن من التمتع بثروته ونفوذه خلال مرحلة الشباب ، ما يشكّل صورة بطولية لهذا المجرم بنظر النشء ، ويقلل من إيمانهم بفرص الإيقاع بأرباب هذه التجارة ، أو تقديم البطل على أنه المتعاطي الذي يحظى بالسعادة والنشوة جرّاء تعاطي المخدّرات ، فغالباً ما يتمثّل المراهقين والشباب بهؤلاء من باب المحاكاة والتقليد ، وبالقابل يجب العمل على تقديمالنماذجالناجحة من أبناء المجتمع في صورة مواد إعلامية جاذبة وشيّقة بديلاً لذلك .
وفي الختام فإنّ كل كلمات العرفان بالفضل والتقدير، لن تفي النشامى من منتسبي إدارة مكافحة المخدّرات ما يستحقون من شكر، وهم يبذلون أرواحهم رخيصة لحماية أبناء الوطن ومقدّراته من أيدي العابثين بأمنه واستقراره ، فالأردنّ يستحقّ الأفضل دائماً .