عندما طلب الملك المؤابي ميشع قبل 3 آلاف عام من شعبه أن يقوموا بطهيّ اللحم في أقدار اللبن ، كان يعلم أنّ شعبه وقد لبّى النداء ، إنما قام بنسف عهود التوراة ، رافضاً ظلم العبرانيين وقهرهم ، فكانت أولى انتصارات العرب على اليهود ، وها هي مقاربة ميشع ، لا زالت تلهمنا نحن الأردنيون وفي غداء كلّ جمعة نشوّة النصر والكرامة .
وليس المنسف فقط ما يجعل الجمعة مليئة بالإلهام ، إذ توقظك رائحة الهيل وهو يغلي بين حبّات القهوة السادة التي يُختَص بها نهار الجمعة ، فتنهض من فراشك خفيفاً سريعاً ، إنها حرية الاختيار ما تمنح لليقظة باكراً في ذلك اليوم طعماً محبباً ، ومع طنين الإشعارات المتلاحقة في الهاتف برسائل الواتس مهنئة ب " الجمعة المباركة " ، تنفرد الأسرة باجتماع أفرادها على وجبة الإفطار ، والتي تخيّرك عادة بين أحد صنفين لا ثالث لهما ، فإما صحن الفول والحمص وحبّات الفلافل ، أو مناقيش الزعتر ، ومع كوب الشاي المزيّن بأوراق النعنع ، يحلو نكش الحديقة ومحادثة نباتاتها ، حتى السيّارة تحظى هي الأخرى بعناية مضافة في يوم الجمعة ، وتمضي ساعات الصباح في ذلك اليوم وكأنها ساعات عيد ، وسط إصرار جمعيّ على تذوّق كل لحظة فيه ، واحاطتها بهالة من التميّز والنصر على ضغوط العمل وأعبائه ، ويُكلل اليوم الفضيل بصلاة الجمعة وخطبتها وحيث للأذان صوت آخر ، وهو ملاذ من تحول ظروف أعمالهم دون الصلاة في الكنيسة يوم الأحد ، ليجدوا في يوم الجمعة فرصة الاتصال المنشود مع الله ، وتستمر الروحانية بنشر بخورها النادر على بقيّة اليوم ، لتضيف لليوم المميز ميزات لا تنتهي ، فيطيب السهر وتحلو اللقاءات .
إذاً فإنّ يوم الجمعة عند الأردنيين يشكّل فرصة لمراوغة الواقع المُثقل بهموم الأيام ومُكدّرات صفوها ، وقطاف الفرح من على تلك الأغصان العالية البعيدة .
وفي جمعة الحظر الأخيرة ، فإننا ننظر بشوق إلى الجمعة القادمة ، بعد أن حرمتنا الكورونا نكهة الجمعة التي نُحب ، فها هي الحياة تعود إلى ضجيجها من جديد ، وها هي الجمعة تعود من جديد إلى حيث لا حظر ولا صلوا في رحالكم ولكن .... ضمن مسافة آمنة .