كمغترب ملّ طعم الغربة ، وتاه في عتمة الزحام ، عدت إليه ممتلئاً بالشوق والحنين إلى الذكريات التي تركتها هناك ، وأنا المقيم الذي لم يغترب سوى في بضع رحلات لم أبتعد فيها لأكثر من عام ، لكنّ رحلة الحظر الوقائي تلاعبت في عقارب الساعة البيولوجية ، فصار الوقت أطول من المعتاد وأثقل ظلاً ، وتضاعف الحرمان بالحذر والشك الملازمين لكل قرارات الخروج والتجوال ، لأعود بعد انقطاع امتد لبضعة شهور ، لكنه بحسابات النستالوجيا بدا وكأنه سنين ، فالعودة إلى هناك ، عودة لا متناهية إلى حيث يسكن الماضي والقديم ، ففي عمّان القديمة أو وسط البلد كما يناديه الأردنيون يتسنّى لك الإحساس بأنفاس الماضي مع كلّ نسمة تحمل رائحة القهوة والتوابل ؛ اتخذت قراري بالعودة إلى هناك ، ولا أدري لم بدا كل شيء لافتاً على غير المعتاد ، فحواسي كانت مرهفة بانتباه ، وكأني أرغب بمعانقة كل زاوية وسؤالها عن أحوالها مع الغياب ، فالأدراج الملونة لا زالت ملونة وتزدهي بالمظلات المزركشة ، وحجارة المباني لا زالت شامخة ومصرة على احتضان العائدين بترحاب الجدة المعهود ، وأصحاب المحلات كما هم يتناوبون على مدّ أيديهم بكرم الدعوة ، ونداءات أصحاب البسطات المنتشرة على الأرصفة تتعالى يسبقها الأمل بتحصيل رزق اليوم ، بدت الحياة دافئة أكثر من كلّ مرة ، وكان الامتنان يملؤني إذ حظيت بفرصة العودة من جديد ، كنت ممتنّاً للحجارة ، والأدراج ، والتوابل ، للخطوط في الشوارع ، والباعة ، وحتى لطوابير المسافات الآمنة التي اتخذها المارّة لشراء سندويشة الفلافل وكوب العصير ، ووجدتني أذهب في كل الاتجاهات لألقي التحية على كل التفاصيل ، لتأخذني قداماي إلى حيث أنبهر في كلّ مرة أمام سبيل الحوريات ؛ بكلّ ما يبوح به من أسرار الرومانسية التي سكنته يوما حيث كان الماء ، وهو يصرُّ على البقاء بذات العنفوان ، فيبادله المدّرج الروماني ذات الأنفة على الطرف المقابل ، وهو يترقب استقبال الزوّار من جديد ليخبرهم بحكاياته ، وحتى ألملم المزيد من فضول نفسي ، عدتُ أدراجي من ذات الطريق ، معرّجاً على محلاّت الأنتيكا والتراث ، لأختزن المزيد من الحنين كي أضمن عودة أخرى ، وكان لا بدّ أن أختتم لقائي بمعشوقتي عمّان بأن ألتقط كتاباً من كشك الكتب ، فأعود مغموراً بتلك الصور، والأصوات ، والنكهات ، والحنين في قلبي يعاتبني ، متى العودة من جديد !