الأردن ليس مساحةً مرسومةً على خريطة المشرق، بل عقدة تلتقي عندها خطوط النار وخطوط النجاة، فالجغرافيا هنا ليست بريئة ولا محايدة؛ فهي التي جعلت من الأردن ممراً وحاجزاً في آنٍ معاً، ومن يقرأ موقعه بوصفه دولةً صغيرةً بموارد محدودة يخطئ الحساب؛ فالمعادلة الاستراتيجية لا تُقاس بحجم الأرض أو الثروة، بل بمكان العقدة التي إن سقطت انهار ما حولها.
التاريخ بوصفه الشاهد والضامن
لم يكن التاريخ يوماً صامتاً في هذه الأرض، فمن الثورة العربية الكبرى إلى معارك فلسطين والجولان والكرامة الخالدة ظلّ الأردن خط تماس تختبر عنده الشعارات صدقيتها، ودماء شهدائه لم تكن مجرد فداء للأرض، بل إعلاناً أن هذه الجغرافيا ليست قابلة للتخلي ولا للهروب. وأكثر من ثلاثة آلاف شهيد أردني هم وثائق حيّة تقول إن الأردن لم يكن متفرجاً على قضايا الأمة، بل كان في قلبها يدفع أثمانها من دم أبنائه.
الجيش العربي: ذاكرة الأمة ورافعة القوة
الجيش العربي لم يُنشأ ليكون جيش دولة فحسب، بل ليكون ذاكرةً عسكريةً للأمة. ففي معاركه لم يكن يقاتل دفاعاً عن حدوده السياسية، بل عن معنى العروبة في مواجهة التفتت، وهو إذ ساهم في تأسيس جيوش شقيقة وتعزيز قدراتها كان يكرّس فكرة أن أمن الأردن متصل عضوياً بأمن محيطه. وما زالت دماء جنوده حاضرةً في ميادين فلسطين والجولان وقرى الأردن الطهور، شاهدةً على أن الجيش العربي لم يقاتل من وراء الحدود، بل في قلبها، مقدّماً للأمة مدرسةً عسكريةً راسخةً وصمّام أمان يوازن بين الردع والجاهزية.
التهديد العابر للحدود
لم يعد تهديد العدو محصوراً في فلسطين أو في الجوار المباشر، بل تمدّد بذراعه الطويلة إلى دول الإقليم، مستفيداً من حالة التشرذم العربي والانحيازات الدولية. وهذا الواقع يجعل الأردن في موقع المواجهة المتقدمة، فهو الساحة التي تختبر فيها قدرة الأمة على كبح هذا التمدد أو التسليم له. إن موقع الأردن الجغرافي–السياسي يحوّله إلى خط الصدع الأول الذي تُرسم عنده ملامح مستقبل التوازن العربي.
الأردن والتوازنات الإقليمية الجديدة
وسط تصدّع الإقليم وتحوّلات التحالفات في خارطة الشرق الأوسط الجديد، يظهر الأردن لا كطرفٍ إضافي، بل كعنصر فاعل لا يمكن تغييب دوره. فحين تراجعت بعض القوى عن أدوارها، بقي الأردن يملأ الفراغ بما يملك من جيشٍ عقائدي وخبرةٍ تراكمت عبر قرنٍ من الزمن. وإن إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية لا يمكن أن تتم بمعزل عنه؛ فالمعادلة الأمنية والسياسية من دونه معادلة ناقصة، تفقد الأمة معها نقطة ارتكازها الأساسية.
البعد القومي–التاريخي للأردن
الأردن لم يكن يوماً يبحث عن أدوار، ولا ينافس على زعامة، بل ظلّ حارساً للعهد العربي ووفياً للوعد التاريخي بالقدس وفلسطين. وإن قيم التضحية التي تجسدت في آلاف الشهداء ليست ذاكرةً عاطفية، بل مرجعيةً سياسيةً واستراتيجيةً تمنح الأردن شرعية الدور ومشروعية القيادة في لحظات الانكسار. ومن يتجاهل هذا البعد يقرأ الحاضر بلا جذور، ويخطئ تقدير المستقبل.
الأردن وخط الدفاع عن العمق العربي
غير أن قوة الأردن، مهما بلغت، لا تكتمل من دون إيمان أشقائه بدوره، ودعمه بما يعزّز صموده. فالأردن لم يتأخر يوماً عن نصرة قضايا الأمة، ولم يساوم على موقعه كخط الدفاع الأول. واليوم، وهو يواجه تحديات تتجاوز إمكاناته المادية، يصبح دعم أشقائه ضرورةً استراتيجية لا رفاهيةً سياسية. فتمكين الأردن هو في حقيقته حمايةٌ لعمقهم، وصموده هو الضمانة لبقاء جبهة عربية موحّدة في وجه تهديد العدو وتمرده المتصاعد.
القوة كشرط بقاء
الأردن لا يطلب دوراً بل يؤدي قدراً، وقوته ليست مصلحةً أردنيةً فحسب، بل مصلحةً عربيةً عليا. وإن تمكينه ليس منّةً، بل تحصينٌ لبيت الأمة من الداخل، أما إضعافه فهو فتحٌ لثغرةٍ استراتيجيةٍ لا يمكن سدّها. فالأردن ليس خياراً على هامش الصراع، بل شرطاً في معادلة البقاء والانتصار.