ليس كل من كتب في التاريخ مؤرخًا، كما أن ليس كل مؤرخ ناقلًا أمينًا للحقيقة. فالتاريخ، وإن بدا لنا كوقائع جامدة مضت وانتهت، إلا أنه في الواقع كائن حي، يتشكل ويُعاد إنتاجه وفق هوى من يكتبه أو يرويه. وبين المؤرخ المتزن، الذي يجعل من ضميره ميزانًا ومن أدوات البحث العلمي منهجًا، والمؤرخ الأهوج، الذي يكتب بدافع الأهواء والانتماءات، تضيع الكثير من الحقائق، وتُشوَّه كثير من الوقائع.
لقد عانى التاريخ، وما يزال، من التشويه والتحريف، ليس فقط من أعداء الحقيقة، بل أحيانًا من أبنائه. بعض من نصبوا أنفسهم "صُنّاع تاريخ” أو "رواة للأحداث” اختاروا أن يكونوا انتقائيين في النقل، يصيغون الوقائع كما تليق بمصالحهم، أو كما ترضي السلطان، أو كما تُرضي عقيدتهم أو حزبهم أو قبيلتهم. إنهم لا ينقلون الحقيقة كما هي، بل كما "يريدونها أن تكون”.
كم من شخصية عظيمة غُيّبت أو شُوّهت؟ وكم من خائن رُفع إلى مصاف الأبطال؟ كم من مجزرة مُحيت من السجلات، وكم من انتصار نُسب زورًا إلى من لم يخض معركة؟ إن التزييف الذي نراه اليوم بأعيننا في الحاضر، هو ذاته ما جرى بالأمس، وما قد يُكتب غدًا إن لم نكن واعين لخطورة التوثيق ومسؤولية التأريخ.
إن التاريخ ليس مجرد سرد للوقائع، بل هو مسؤولية أخلاقية وإنسانية ووطنية. التوثيق أمانة، لا يجوز فيها التزييف ولا التهوين ولا التضخيم. والمؤرخ الحقيقي لا يكتب ليرضي جمهورًا، ولا ليمجّد سلطة، بل يكتب لأنه مؤمن بأن الحقيقة، وحدها، تستحق أن تُروى.
شتّان بين مؤرخ متزن، يتسلح بالموضوعية والدقة، يزن الأحداث بميزان الإنصاف، ويبحث في الوثائق والشهادات والمصادر، وبين مؤرخ أهوج، يلهث خلف الإثارة أو يغرق في التحيز، لا يعرف من البحث إلا ما يدعم رأيه، ولا يرى في التاريخ إلا وسيلة لخدمة أجندة.
وفي زماننا هذا، وقد أصبحت وسائل التزوير أكثر تطورًا، علينا أن نكون أكثر وعيًا. كيف نصدق تاريخًا مضى، ونحن نرى بأعيننا اليوم كيف تُخفى الحقائق، وتُكتم الشهادات، ويُحرّف الصوت الصادق؟ كيف نطمئن لسجلات الأمس، و”صانعو الحدث” الجدد يلبسون الباطل ثوب الحقيقة بلا خجل؟
إننا بحاجة إلى مراجعة ما نُقل إلينا، بعين الناقد لا المصفق، وبضمير الباحث لا انفعال المتعصب. فالمؤرخ الصادق هو من ينقل الحقيقة كما هي، لا كما تُطلب منه، ويكتبها كما حدثت، لا كما تُراد أن تُروى.