لقد خص المشرع القضاء والقضاة بمركز قانوني يضمن حيادهم ونزاهتهم وكفاءتهم واستقلالهم، فقد كفل الدستور لهم ان يكونوا سلطة مستقلة لا تخضع لاحد في الدولة سوى لنصوص القوانين ومصادره المختلفة حيث نصت المادة رقم 97 من الدستور الاردني على "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون"
وكذلك نصت المادة 101/1 من الدستور على ان "المحاكم مفتوحة للجميع ومصونة من التدخل في شؤونها"
فأن القاضي عند عمله على قضية ما لا يستطيع ان يملي احد عليه كيف يبت بها او بماذا يحكم، فهنالك مسار رسمته التشريعات المختلفة يستدل به القاضي على دربه اثناء فصله بدعوى ما دون ان ينساق لأي امر او اي تدخل او محاولة لحرف بوصلة العدالة، ولم نعهد غير ذلك عن قضائنا النزيه بكافة انواعه ودرجاته.
ومن مبادئ الفقه القضائي المستقرة هو مبدأ حياد القاضي، فما هو مبدأ حياد القاضي؟ وكيف تؤثر على هذا المبدأ مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام؟ وما هي مسؤوليتنا اتجاه ذلك كافراد ومؤوسسات؟
ان مبدأ حياد القاضي يتبلور في المادة رقم 3 من قانون البينات الاردني التي تنص على انه "ليس لقاض ان يحكم بعلمه الشخصي".
فما هي حدود العلم الشخصي بحسب هذه المادة؟ في الحقيقة ان الصورة العامة لهذا النص توضح انه يقصد به المعلومات الشخصية التي تصل إلى علم القاضي بصدد وقائع الدعوى أو بصدد مدى ثبوت او صحة البينات المعروضة امامه لكن من خارج مجلس الحكم، كمثال ان يكون ينظر بدعوى ويكون بوقائع هذه الدعوى ان المدعى عليه من فارضي الاتاوات، واثناء تصفح القاضي لصفحته في فيس بوك يجد فيديو لذات الشخص وهو يفرض اتاوة هنا يكون القاضي قد خالف مبدأ حياد القاضي ويكون حكم بعلمه الشخصي، وهذا بطبيعة الحال لا يسرى على تقارير المعاينة والخبرة، فبالرغم من ان مصدر الخبرة والمعاينة من خارج مجلس الحكم الا انها صادرة حسب الاصول ولا يعتبر الاخذ بها مخالفة للمادة 3 بينات او لمبدأ الحياد على عكس مثال الفيديو السابق.
فما هو خطر السوشال ميديا والاعلام على حياد القضاء؟
لبيان ذلك علينا تمحيص ما ينطوي عليه مبدأ حياد القضاء وما يقصد بحياد القاضي.
بداية ولأزالة اي غموض، لا يقصد بحياد القاضي عدم انحيازه لصف احد المتقاضين، فهذا امر مسلم به ولا يجوز ان ينحاز القاضي الا بما امامه من بينات وما يمليه عليه القانون، اما الحياد بمعناه الفقهي يقصد به ما يلي:
اولا: ليس للقاضي أن يسند قضاءه او يستعين في أحكامه على معلوماته الشخصية وتحرياته الخاصة التي لم يحصل أثبتاها او نفيها بمعرفة أطراف الخصومة، فحكم القاضي مستندا الى علمه الشخصي بالوقائع، يلقي بنفسه الى سوء الظن لانه –القاضي- ليس شاهدا في الخصومة، وإنما هو حكم فيها وقد أمن الناس بجانب القضاة وتساوى الخصمان امام القضاء، وبقيت الدعوى سجالا بينهما، يحتج كل منهما على غريمه بما يسر له القانون من وسائل الاثبات وطرق الاقناع والدفع.
ثانيا: ليس للقاضي ان يبني حكمه على دليل يستمده بنفسه دون قيام الخصوم بذلك، ويقتصر دوره على بيان ما اذا كان الدليل جائز القبول قانونا او يجب رفضه وفقا لقواعد الاثبات الموضوعية والاجرائية، ولا يجوز له جمع عناصر دليل او ادلة اثبات لصالح الخصمين، بل عوضا عن ذلك، يقدم اي دليل أدلى به خصم الى الخصم الآخر، ليطلع عليه وليناقشه وليثبت عكسه، ان اراد، واذا ما أجرى معاينة او خبرة او تحقيقاً بسماع الشهود مثلا، استدعى الخصمين معا، حتى يوفر لكل طرف فرصة الدفاع بأثبات عكس ما يدعيه الطرف الآخر او اقراره.
ثالثا: لا يجوز للقاضي ان يستند في حكمه الى دليل قام في قضية اخرى، اذا لم تكن اوراق هذه القضية ضمت الى الدعوى التي أمامه حيث يمكنه في هذه الحالة الاستئناس بما قام في تلك القضية الاخرى من ادلة متى قام ارتباط بين الدعوتين.
رابعا: لا يكفي ان يكون حكم القاضي صحيحا في ذاته –اي في نفسه-، وانما يجب ان يبدو كذلك للخصوم، "وللناس كافة".
ونلاحظ من كل ما سبق-وخصوصا النقطة الرابعة-، ان القاضي يقع عليه ضغط كبير في اي قضية رأي عام، لما يشكل ذلك من تحد عظيم لكل المبادئ السابق ذكرها فانت عندما تنشر في قضية ما منظورة تفتح المجال امام حرف بوصلة العدالة ببينات خاطئة ربما قد تؤثر في سير العدالة.
والنقطة الاهم هي الرابعة، ففي العادة ان اي قاض تصله دعوى رأي عام تكون كما ان الشعب قد اصدر حكم مسبق "بمحاكمة شعبية" على الاعلام والسوشال ميديا ان صح التعبير، فنلاحظ من النقطة الرابعة ان القاضي حينما يصدر حكمه يجب ان يكون صادرا بشكل يقنع القاضي ذاته والخصوم "والناس كافة"
وهذا يشكل ضغطا هائلا على القاضي وعلى العدالة برمتها، عداك عن القضاية الجنائية التي يعتمد بها القاضي على "قناعته الوجدانية" فتخيل كم يمكن ان تتأثر هذه القناعة الوجدانية مع كل هذا الزخم المعلوماتي والشحن النفسي سواء في الاعلام او على السوشال ميديا.
فما هو واجبنا كافراد ومؤوسسات تجاه القضاء والعدالة؟
في الحقيقة يجب ان يتم منع النشر في اي قضية وصلت للقضاء وان اي شخص يمتلك معلومة عليه ان يقدمها للجهات المختصة بدلا من نشرها وخلق جو من البلبلة الاعلامية والمجتمعية بشكل يعيق مسار العدالة، ففلان من الناس قام بمخالفة او تهرب جمركي –على سبيل المثال- وتم تحويل القضية لتهم ارهابية واقتصادية وهي في اساسها جمركية، وهذا في حقيقة الامر حرف لبوصلة العدالة فكما لاحضنا اعلاه ان القضاء مستقل، واستقلاله هذا لا يقتصر على عدم التدخل بشؤونه من المسؤولين فقط وانما يجب ان يشمل المحاكمات الشعبية على الاعلام والسوشال ميديا التي لا يصح تحت اي ضرف ان تحرف مسار العدالة الذي نعتز ونفاخر به امام العالم كافة.