بين بغداد وعمّان مسافة تُقاس بالكيلومترات، لكنها تُختصر يوميًا في الأخبار والصفحات والمواقع. الإعلام، هنا، ليس مجرد وسيلة لنقل المعلومة، بل هو الجسر الذي يعبر عليه الناس صور بعضهم البعض، وانطباعاتهم، بل وحتى أحكامهم المسبقة.
منذ عقود، ظلّت العلاقة بين الأردن والعراق تمرّ بمنعطفات سياسية واقتصادية، لكن ما يظل حاضرًا دومًا هو السردية الإعلامية التي تصنع وجه هذه العلاقة في الوعي العام. فالصحف، القنوات الفضائية، والإذاعات، وحتى المنصات الرقمية اليوم، هي التي ترسم صورة العراقي في ذهن الأردني، والأردني في ذهن العراقي.
المشكلة أن الإعلام كثيرًا ما يميل إلى تضخيم الأحداث السلبية: أزمة هنا، حادث هناك، أو خبر عاجل يتصدر العناوين. أما التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة اليومية، نادرًا ما تجد طريقها إلى الصفحات الأولى. كم مرة سمعنا عن تجارة مشتركة بين مدينتين صغيرتين؟ أو عن مهرجان ثقافي جمع فنانين شبابًا من الطرفين؟ أو عن عائلة أردنية استقبلت ضيفًا عراقيًا، أو العكس؟ هذه القصص لا تُقرأ إلا في الهوامش، رغم أنها الحقيقة الأعمق للعلاقة.
الإعلام لا ينقل فقط، بل يكتب الرواية. وإذا كانت الرواية تقتصر على السياسة، فسوف تبدو علاقتنا متعبة ومتقلبة. أما إذا فسحنا المجال لقصص الناس، فسوف تظهر الصورة الأصدق: جيران يتشاركون الطعام واللغة والعادات، طلاب يدرسون جنبًا إلى جنب في الجامعات، مرضى يجدون علاجهم عبر الحدود، ورحّالة يسافرون محمّلين بالحب والحنين.
اليوم، في زمن السوشال ميديا، صار كل فرد قادرًا على أن يكون إعلاميًا. صورة من مطعم في عمّان يشاركها صديق عراقي، أو مقطع فيديو من شارع بغدادي يُعيد نشره شاب أردني، كلها أجزاء من الرواية الجديدة. هنا، تُكتب علاقة أكثر بساطة وإنسانية، لكنها في جوهرها أكثر ثباتًا من كل البيانات الرسمية.
ما نحتاجه فعلًا هو إعلام يُنصت للهامش، ويضع الإنسان قبل السياسة، ويقدّم ما يجمع بدلًا من أن يكرّس ما يفرّق. لأن العلاقات لا تُبنى بالقرارات وحدها، بل بالصور والكلمات التي تتكرر حتى تصبح وعيًا عامًا.
من يكتب روايتنا اليوم؟ سؤال مفتوح، لكن الإجابة يجب أن تكون مشتركة: الإعلام في بغداد وعمّان معًا، والصوت الشعبي الذي يرفض أن تُختصر العلاقة بين بلدين وشعبين بهذا الغنى في أخبار عاجلة أو أزمات عابرة.
فالرواية الحقيقية هي التي ترويها الطرق بيننا، والمقاهي، والجامعات، والأسواق، والذاكرة الممتدة بين ضفتي دجلة والأردن.