بفضل ثقافته الواسعة وشخصيته البراغماتية الطموحة، استطاع الجولاني التوفيق بين المتناقضات وتجاوز العقبات، مما مكّنه من بناء تحالفات لم تكن لتتشكل لولا تمتعه بصفات تجمع بين الحنكة السياسية والمرونة التكتيكية. تنقل الجولاني بين مراحل متعددة، من تنظيم القاعدة إلى جبهة النصرة، وصولاً إلى هيئة تحرير الشام، ونجح في تحقيق تقاطعات استراتيجية مع الجيش الوطني المدعوم من تركيا.
هذا النهج جعله خياراً "أقل ضرراً" بالنسبة للولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، مقارنة بنظام الأسد المدعوم من إيران، الذي يُمثل حلقة وصل بين طهران وبغداد والضاحية الجنوبية في بيروت. أما بالنسبة لروسيا، فقد رأت في الجولاني بديلاً محتملاً لتجنب سيطرة أمريكية كاملة على سوريا، في حين وجدت تركيا في مشروعه فرصة لمعالجة مشكلاتها مع اللاجئين والخوف من إنشاء دولة كردية تهدد أمنها القومي عبر حزب العمال الكردستاني.
على صعيد دول الجوار العربي، تبنّى الأردن نهج الحياد لتجنب صدام مباشر مع السلطة الجديدة، مع الأخذ في الاعتبار الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين على أراضيه، معظمهم من المعارضين لنظام الأسد. وعلى الرغم من التعاون الكبير بين نظام الأسد والقيادة الشيعية العراقية، بدا النظام السوري معزولاً بعد التراجع الإيراني والروسي. وقد دفع ذلك العراق إلى إظهار مرونة جديدة، مثل إرسال وفود للتفاوض مع المعارضة في دمشق.
التوازنات الإقليمية والدولية
هذه التوازنات السياسية أدت إلى عدم التدخل الجوي الروسي، مما كشف ميليشيات إيران أمام المعارضة المسلحة وأجبرها على الانسحاب التدريجي من بعض المواقع. إضافةً إلى ذلك، ساهمت المعنويات المتردية لجنود النظام السوري، الذين يتقاضون رواتب زهيدة لا تتجاوز 15 دولاراً شهرياً، في تحقيق المعارضة المسلحة انتصارات غير متوقعة.
أما الانهيار الأخير لنظام الأسد، فقد جاء نتيجة افتقاره لاستراتيجية واضحة تجمع مؤيديه تحت قيادة فعالة في الساحل السوري، حيث معقل أنصاره. وقد ساعد انكفاء حزب الله إلى الداخل اللبناني، نتيجة جراحه العميقة بعد حروبه مع إسرائيل، في تعزيز موقف المعارضة.
الجولاني والتكيف مع المتغيرات
لم يقتصر نجاح الجولاني على الجانب العسكري، بل امتد إلى التعلم من دروس الربيع العربي والتكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية. هذه العوامل ساعدته في تقديم نفسه كخيار مقبول، إن لم يكن الأفضل، فهو الأقل ضرراً.
على الصعيد الداخلي، يرى العديد من السوريين في الجولاني شخصية مخلصة تسعى للخلاص من حكم طاغية دمشق، وهذا بحد ذاته يُعد نجاحاً كبيراً. ومع ذلك، يواجه الجولاني انتقادات تتعلق بضعف الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، سواء في احتلال الأراضي أو تنفيذ الغارات الجوية. بالإضافة إلى ذلك، كان من الضروري أن يُظهر طمأنة واضحة لطوائف للعلويين والأكراد،والشيعة مما قد يساعد في تحقيق استقرار أكبر على المدى الطويل.وطمأنة روسيا على سلامة قواعدها ولو على المستوى الزمني القريب
التوقعات المستقبلية
رغم التحديات المتمثلة في القوى المضادة وداعميها الخارجيين، أتوقع استمرار نجاح هيئة تحرير الشام والفصائل الثورية الأخرى. هذه القوى المضادة تسعى لإثارة النعرات الطائفية واستغلال دعم الأطراف المتضررة من نجاح الثورة. ومع ذلك، فإن وعي الشعب السوري الناتج عن معاناة عقود طويلة من الاستبداد عزز إصراره على حماية مكتسبات الثورة.
إذا تمكن قادة الثورة من الحفاظ على وحدتهم، رغم اختلاف الأيديولوجيات وتنوع الداعمين الإقليميين والدوليين، فإن الطريق سيكون ممهداً لتحقيق تغيير حقيقي. نأمل أن يُتوج هذا الجهد بالتحرر والنجاح المنشود.