في تاريخ الاذاعة والتلفزيون أسماء كثيرة ارتبطت بالذاكرة الجمعية للناس، غير أن صوت محمد الصرايرة ظل واحدًا من أبرز تلك الأصوات التي أحاطت المستمعين والمشاهدين بالطمأنينة، ورسّخت لدى الجمهور صورة الإعلامي الهادئ الملتزم. لم يكن حضوره مجرد أداء وظيفي خلف الميكروفون أو أمام الكاميرا، بل كان رسالة متكاملة حملت معاني الصدق والإيمان والسكينة.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حين كان المذياع هو الوسيلة الأبرز للتواصل بين الناس في الأردن والعالم، التحق محمد الصرايرة بالإذاعة الأردنية، المؤسسة التي شكّلت المدرسة الكبرى لأجيال من المذيعين. منذ انطلاقته الأولى، قدّم نفسه إعلاميًا مختلفًا، يتعامل مع الكلمة بوصفها أمانة ومسؤولية، ويمنح المستمعين من صوته سكينة ودفئًا جعلت حضوره جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية.
تدرّب الصرايرة في بداياته على إعداد وتقديم البرامج، ولفت الانتباه سريعًا بقدرته على ضبط إيقاع الأداء وهدوئه المتزن. ولتعزيز خبراته، أوفدته الإذاعة الأردنية إلى القاهرة لحضور دورة تدريبية متخصصة في إذاعة "صوت العرب"، وهو ما يعكس توجه المؤسسة آنذاك للاستفادة من التجارب العربية الرائدة وإعداد كوادر مؤهلة.
على امتداد ثمانية عشر عامًا متواصلة، كان صوت محمد الصرايرة حاضرًا في نشرات الأخبار اليومية، في ثبات وانضباط نادرين. غير أن بصمته الأبرز ظهرت في المجال الديني، حيث تولى إعداد وتقديم سلسلة من البرامج التي رسّخت مكانته، لتصبح هذه البرامج ركيزة ثابتة في خريطة البث الإذاعي. وفي عام 1983 تسلّم رئاسة قسم البرامج الدينية في الإذاعة الأردنية، ليقود توجهًا متجددًا يزاوج بين الأصالة والتجديد.
ومع عام 1985، حين جرى دمج الإذاعة مع التلفزيون ضمن مؤسسة واحدة، طرق الصرايرة باب الشاشة الصغيرة من خلال برنامج مسابقات خاص بالمولد النبوي الشريف، ليصبح بعدها أحد أبرز الوجوه الإعلامية المألوفة في التلفزيون الأردني.
على شاشة التلفزيون، قدّم الصرايرة برامج عديدة اشتهرت بطرحها الإسلامي الهادئ، بعيدًا عن الخطابة والمبالغة، نذكر منها:
من نور النبوة
من هدي القرآن الكريم
نداء الروح
الإنسان في القرآن
نحن والصيام
منبر الإفتاء
هديل الروح
آلاء تسبّح الله
الخطاب الإسلامي والقضايا المعاصرة
مظاهر وظواهر اجتماعية
هذا خلق الله
هذه البرامج، بصوتها المميز ومضامينها المتزنة، جعلت من الصرايرة رمزًا للطرح الإسلامي العصري، الذي يجمع بين الروحانية والعمق المعرفي.
لم يقتصر عمله على الجانب الديني، بل أنتج برامج إذاعية وتلفزيونية حول قضايا السكان والتنمية، وحضر دورات متخصصة في الإسكندرية وبيروت. كما تولى رئاسة لجنة انتقاء الأغاني في الإذاعة الأردنية، ولجنة انتقاء نصوص المسلسلات الدرامية، وأسهم في وضع معايير للارتقاء بالعمل الفني والإذاعي.
وكان له حضور في المؤتمرات الفكرية والإعلامية داخل الأردن وخارجه، حيث أجرى مقابلات مع علماء ومفكرين بارزين، وشارك بفاعلية في النقاشات الإعلامية والفكرية.
في عام 2001، عُيّن محمد الصرايرة مديرًا عامًا للبرامج في الإذاعة الأردنية، وأسهم من موقعه هذا في تطوير الدورة البرامجية وتوسيع حضور الإذاعة. وفي 2006، أعير ليصبح أول مدير عام لإذاعة "حياة إف إم"، التي انطلقت بشعار "حياة إف إم… لحياة طيبة"، مقدمة مزيجًا من البرامج الإسلامية والمجتمعية الحديثة، مثل البرنامج الصباحي "صوت حياة" وبرنامج "حواء"، وهي برامج تركت بصمة بارزة في المشهد الإذاعي. بالتوازي، أدار الصرايرة شركة "السلام للإعلام المسموع"، مواصلًا دوره الريادي في تطوير الإعلام المسموع.
بعد ثلاث سنوات من الإعارة، عاد الصرايرة مطلع عام 2009 إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنية، حيث واصل تقديم برامج مهمة مثل "منبر الإفتاء" المباشر على شاشة التلفزيون الأردني، وبرنامج "مظاهر وظواهر اجتماعية" عبر الأثير، بالإضافة إلى مشاركته السنوية في مواسم رمضان من خلال بث حي لفترة السحور من مساجد عمّان، ومساهماته في إدارة المجالس العلمية التي تقيمها وزارة الأوقاف.
شارك الصرايرة كمحكّم إعلامي في عدة مهرجانات أقامها اتحاد إذاعات الدول العربية في القاهرة وتونس، وطرح مقترحات تطويرية للبرامج الدينية تواكب قضايا العصر وتطلعات الجمهور.
حظي محمد الصرايرة خلال مسيرته بعشرات الدروع التقديرية على المستويين المحلي والعربي، تقديرًا لعطائه الإعلامي وإسهاماته الكبيرة. ويُحسب له أنه صاحب فكرة النقل الإذاعي المباشر لفترة السحور في رمضان، والتي انطلقت عام 1984، لتصبح تقليدًا سنويًا ارتبط بالذاكرة الدينية للمستمع الأردني. كما برز دوره في إحياء المناسبات التاريخية الدينية، كلٌّ حسب موقعها وزمانها، في إطار توظيف واعٍ للتاريخ يخدم القيم الدينية والإنسانية.
في عام 2015، طوى محمد الصرايرة صفحة عمله الإعلامي الرسمي بالتقاعد بعد أكثر من سبعة وثلاثين عامًا من العطاء. غير أن رحلته لم تتوقف عند هذا الحد، إذ حصل على إجازة مزاولة مهنة المحاماة، ليخوض مجال القانون، مستثمرًا خبراته في الثقافة العامة والحضور المجتمعي، فكان إعلاميًا وقانونيًا في آن واحد.
ظل محمد الصرايرة على امتداد مسيرته صوتًا للسكينة والإيمان، ووجهًا إعلاميًا صادقًا ارتبط في ذاكرة المستمعين والمشاهدين بالطمأنينة والصدق. وبين الميكروفون والكاميرا، وبين الإدارة والبرامج، وبين الصوت والصورة، نسج سيرة إعلامية متكاملة تستحق التقدير والاقتداء، بما حملته من التزام ومسؤولية ووعي عميق تجاه المجتمع والأمة.