عبر مسيرة امتدت لأكثر من أربعة عقود، شكّل الدكتور جورج فريد طريف حالة فريدة في المشهدين الأكاديمي والإعلامي في الأردن؛ فهو ذلك المثقف الذي لم يكتف بكتابة التاريخ على الورق، بل حمله إلى أثير الإذاعة وفضاء التلفزيون، ليقدّمه إلى الناس بلغة تجمع بين الرصانة والوضوح، وبين الوثيقة والرؤية النقدية.
وُلد الدكتور جورج فريد طريف في بلدة الفحيص عام 1951، ونشأ في بيئة مشبعة بالتقاليد الوطنية والثقافية، مما غرس فيه مبكرًا الاهتمام بالهوية والتاريخ. حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث من الجامعة الأردنية، وركّز في أطروحته البحثية على دراسة دقيقة بعنوان: "السلط وجوارها 1864–1921"، والتي تحولت لاحقًا إلى مؤلف مرجعي نشر على مراحل بين عامي 1994 و2008.
بدأ طريف مسيرته المهنية من بوابة الإذاعة الأردنية، حيث تقلّد منصب مدير الأخبار، وكان من الإعلاميين القلائل الذين جمعوا بين إدارة المحتوى والعمل الميداني. لم يكتف بالتحرير الإداري، بل شارك فعليًا في إعداد وتقديم برامج ثقافية وإخبارية شكّلت إضافة نوعية للمحتوى الإذاعي، خصوصًا فيما يتعلق بتناول الأحداث التاريخية، أو القضايا الوطنية من منظور وثائقي مدروس.
تميّزت برامجه بأسلوبه السلس، ولغته الواضحة، ومرجعيته الأكاديمية، ما جعل صوته مألوفًا وموثوقًا لدى المستمع الأردني. وكان له حضور دائم في البرامج الخاصة بالمناسبات الوطنية، حيث يُستدعى للمساهمة في تغطيات تستند إلى التوثيق والسياق التاريخي، وليس مجرد السرد أو الاحتفاء.
أنتج الدكتور جورج طريف عددًا من المؤلفات التي تُعد من الركائز في دراسة التاريخ الأردني والفلسطيني الحديث، من أبرزها:
"السلط وجوارها 1864–1921": دراسة اجتماعية وتاريخية معمّقة ترصد التحولات في منطقة البلقاء خلال العهد العثماني والانتقال إلى الحكم الهاشمي.
"جوانب من تاريخ الأردن وفلسطين" (2017): محاولة لرصد المحطات الكبرى التي أثرت في الكيان الاجتماعي والسياسي للمنطقتين.
أبحاث ومقالات أخرى تناولت التاريخ البرلماني، ودور الوثائق البريطانية في تشكيل الوعي السياسي في الأردن، والعلاقة بين الدين والسياسة في النشأة الوطنية.
شارك د. طريف في عشرات الندوات والمؤتمرات الوطنية والعربية، وألقى محاضرات في منتديات ثقافية مثل منتدى الرواد الكبار والجامعة الأردنية، ناقش فيها موضوعات تتعلّق بالهوية الوطنية الأردنية، والمدينة الأردنية، وتاريخ البنية الاجتماعية، فضلًا عن تقديم قراءات تحليلية في تطورات القضية الفلسطينية عبر العقود.
كما ساهم في مشاريع توثيقية ومؤسساتية، مثل دعم المحتوى الوثائقي لـ متحف الحياة البرلمانية في عمان، والمشاركة في إعداد الدراسات التاريخية لبلديات أردنية ضمن خطط وطنية للاحتفال بمئوية الدولة.
يُعرف الدكتور جورج فريد طريف بدقته الأكاديمية، وهدوئه المهني، وحضوره الأخلاقي. لم يكن نجمًا استعراضيًا في الإعلام، بل مثقفًا ملتزمًا، جعل من التاريخ جسرًا نحو بناء وعي وطني صلب. ومن خلال عمله في الإذاعة، ترك بصمة صوتية لا تُنسى، رافقت أجيالًا من المستمعين الذين تعلّموا من صوته أن التاريخ ليس ماضٍ ساكن، بل أداة لفهم الحاضر وصناعة المستقبل.
يمثل د. جورج فريد طريف نموذجًا نادرًا في الحياة الثقافية الأردنية؛ هو ابن الفحيص، وابن الجامعة، وابن الإذاعة، وابن الفكرة. جمع بين الحرفية الإعلامية والدقة الأكاديمية، فكان مؤرخًا يتكلم، وإعلاميًا يوثّق، ومواطنًا يسهم في بناء وعي وطنه، سطرًا بعد سطر، وصوتًا بعد صوت.