في الذاكرة الاعلامية تظهر أسماء ساهمت في وضع اللبنات الأولى لمسيرة إعلامية ناضجة ومحترفة. ومن بين تلك الأسماء الخالدة تبرز ميسون عويس، المعروفة أيضًا باسم ميسون الصنّاع، التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه باعتبارها أول مذيعة تظهر على شاشة التلفزيون الأردني مع انطلاق بثه الرسمي عام 1968.
كانت لحظة الإعلان عن البث التلفزيوني لحظة مفصلية في حياة الأردنيين، وميسون عويس هي من نطقت بها، لتتحول من مذيعة شابة إلى أيقونة إعلامية نسائية، تُحفر صورتها وصوتها في ذاكرة الوطن.
ميسون عويس من مواليد جنوب الأردن، نشأت في بيئة أردنية تقليدية متمسكة بالقيم، وتلقت تعليمها في مدارس المملكة، قبل أن تلتحق مبكرًا بميدان الإعلام. وقد كانت من أوائل النساء اللاتي قررن خوض غمار العمل في الإذاعة الأردنية، حيث تدربت وأثبتت حضورًا لغويًا وصوتيًا متميزًا، مما رشحها لتكون في مقدمة الكوادر التي انتقلت لاحقًا إلى التلفزيون مع افتتاحه.
قبل أن تصبح "وجه التلفزيون الأردني"، كانت ميسون واحدة من الأصوات الشابة التي برزت في الإذاعة الأردنية، حيث عملت مقدّمة ومعدة ومشاركة في العديد من البرامج الإذاعية، بما في ذلك برامج موجهة للمرأة والأسرة، إلى جانب تقديمها نشرات الأخبار والتقارير الإذاعية.
تميزت بإتقانها اللغة العربية الفصحى، وامتلاكها لصوت إذاعي قوي وواضح ومُحبب، وهي صفات ساعدتها على التحول إلى الشاشة بكل ثقة.
في يوم 27 نيسان 1968، انطلق البث الرسمي للتلفزيون الأردني، وكان الصوت الذي انطلق من الشاشة هو صوت ميسون عويس، التي أعلنت افتتاح البث بعبارة مؤثرة وعذبة:
"هنا التلفزيون الأردني... نبدأ معكم رحلة جديدة من التواصل والمعرفة."
وبذلك، أصبحت أول مذيعة تلفزيونية تُطل على المشاهد الأردني، وتم توثيق هذه اللحظة كواحدة من أهم الأحداث الإعلامية في تاريخ البلاد.
ظهر معها في انطلاقة البث مجموعة من الرواد، منهم الإعلامي زهير الشاويش والمخرج رفيق شوقي، لكنّها كانت الوجه النسائي الوحيد في ذلك المشهد التاريخي.
بعد لحظة الانطلاق، استمرت ميسون عويس في العمل بالتلفزيون الأردني، وقدمت العديد من البرامج الثقافية والاجتماعية والإخبارية، وكانت مثالاً للمذيعة الهادئة، المتزنة، صاحبة الحضور القوي.
ومن أبرز البرامج التي قدمتها:
برنامج "المرأة والمجتمع"
برنامج "صباح الخير"
برامج خاصة بالمناسبات الوطنية والدينية
برامج تثقيفية حول قضايا الصحة والتعليم والأسرة
كما شاركت في تغطية العديد من المناسبات الرسمية، والاحتفالات الوطنية، وكانت محاورة ذكية لعدد من الشخصيات السياسية والثقافية الأردنية والعربية.
نظرًا لمكانتها التاريخية ودورها الريادي، نالت ميسون عويس تكريمات عديدة من مؤسسات الدولة ووزارة الإعلام، أبرزها:
تكريم رسمي في عيد التلفزيون الأردني الأربعين (2008).
درع الريادة الإعلامية من مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنية.
تكريم ضمن فعاليات يوم المرأة العالمي من الاتحاد النسائي الأردني.
درع الإبداع الإعلامي من الهيئة العربية للإذاعة والتلفزيون.
وكان التلفزيون الأردني يحرص على دعوة ميسون عويس في كل احتفال بذكرى تأسيسه، حيث تُكرَّم كرمز نسائي فتح الباب لظهور إعلاميات أردنيات تبوأن مواقع بارزة لاحقًا.
ميسون عويس لم تكن مجرد مذيعة، بل كانت نموذجًا ملهمًا للمرأة الأردنية التي تؤمن بقدرتها على الإسهام في الحياة العامة. فتحت الباب أمام جيل كامل من الإعلاميات مثل:
ميسون يوسف
عروب صبح
أمل الدباس (في العمل الإذاعي والدرامي)
فريال قطينة
وساهمت في ترسيخ فكرة أن الإعلام ليس حكرًا على الرجال، وأن صوت المرأة الأردنية قادر على أن يكون حاضرًا بقوة ورزانة واحتراف.
في أواخر الثمانينيات، قررت ميسون عويس التفرغ لحياتها العائلية، وابتعدت بهدوء عن الشاشة، لكنها بقيت حاضرة في الذاكرة الوطنية، تُذكر وتُحتفى بها في كل مناسبة إعلامية أو تاريخية.
وقد ظهرت في مقابلات نادرة في التسعينيات تحدّثت فيها عن البدايات، وأعربت عن فخرها بما قدمته لوطنها، داعية الجيل الجديد من الإعلاميين إلى الالتزام بأخلاقيات المهنة.
قالت عنها الإعلامية إيناس عبد الدايم:
"ميسون عويس علمتنا أن الصمت قبل الكلمة جزء من الأداء... وأن احترام المشاهد يبدأ من احترام الذات."
وكتب عنها الإعلامي إبراهيم الزعبي:
"كانت تسبق عصرها بنعومة الأداء، ورصانة النطق، واحترام المشاهد... هي الوجه الذي طبع بداية الصورة الأردنية."
يبقى اسم ميسون عويس محفورًا في ذاكرة الأردنيين، ليس فقط لأنها أول مذيعة ظهرت على التلفزيون، بل لأنها اختزلت في صوتها وصورتها كل معاني البدايات والجدّ والاحتراف.
هي من ذلك الجيل الذي قدّم الإعلام على أنه رسالة، وليس استعراضًا، وهي من أولئك الذين مرّوا بهدوء، لكنّهم تركوا أثرًا عميقًا لا يُمحى.