في زمن تتبدل فيه القيم، لم يعد الغريب أن ترى من هدم العقول، وأفسد الفكر، وأشاع الرداءة، يُقدَّم للناس على أنه حكيم وأستاذ للأجيال وقدوة. في زمن كهذا، يمكن للخراب الفكري أن يرتدي ثوب الحكمة، وللكذب أن يتزين بعمامة الصدق، وللخيانة أن تُسوَّق على أنها وفاء.
هنا، يصبح الخطر مضاعفًا، لأن السمّ لا يُسكب في الكأس علنًا، بل يُقدَّم في قدح من ذهب.
في أوطانٍ أنهكها الصمت، قد يتحول صاحب الخراب الفكري إلى حكيم، والفاسد إلى صاحب هيبة ومقام. من يسرق والده – ويغدر بثقة من ائتمنوه، يجد نفسه بعد حين متربعًا على كرسي إدارة عليا، يحيط به المصفقون، ويتسابق المنافقون لمدحه، ويغرقونه بألقاب صاحب البصيرة والوجيه وسديد الرأي. الخطيئة الكبرى أن أبناءه من بعده يتباهون به، يفاخرون بأنه كان وجيها وحكيما وصاحب بصيرة ، متناسين أن إرثه الحقيقي هو النهب والتسلط والغدر، لا المجد.
بعض رؤساء الإدارات العليا اليوم يمثلون هذا النموذج المظلم، حيث تتحول المناصب إلى مزرعة خاصة، والشعب إلى خدم لسلطانهم. هنا، تنقلب الموازين، فيُكافأ الفساد ويُهمّش الشريف، ويصبح الغش مهارة، والخيانة فطنة، والتملق ذكاءً اجتماعيًا. هذه الثقافة المريضة تورث الأجيال القادمة قناعةً أن الطريق إلى القمة لا يمر عبر النزاهة، بل عبر دهاء السرقة ولباقة الكذب.
ولهذا، فإن الواجب الأخلاقي والوطني يحتم علينا كمجتمع ناضج الفكر ،أن نكسر هذه الحلقة المعيبة، وأن نرفض تمجيد الفاسد مهما علا شأنه أو تزين بالألقاب. لا يجوز أن نصنع للأمة أصنامًا من الطين الملوث، ولا أن نربي أبناءنا على الانبهار بمن سرق قوتهم ونهب مستقبلهم. المحاسبة ليست خيارًا، بل ضرورة لحماية ما تبقى من القيم، واستعادة هيبة الدولة وعدالة المجتمع.
يجب أن يعرف كل من يجلس على كرسي المسؤولية أن التاريخ لا يرحم، وأن ألسنة المديح التي تلمّع اليوم صورته، قد تتحول غدًا إلى شهادات إدانة في حقه. أمةٌ تكرم فاسديها، تهدم بيديها جدار عزتها، وأمةٌ تحاسبهم وتفضحهم، تكتب مستقبلها بأحرف من نور.
وفي النهاية :حين يصبح صاحب الخراب الفكري حكيمًا، ويتحوّل الفاسد إلى قدوة، فاعلم أن الأمة قد وضعت ثقتها في غير مكانها.