كنت أزور أخي وصديقي صايل بيك الخريشا، وهناك شاهدت و تتكرر المشاهد التي تشبه لوحات من التمثيليات البدوية التي كنا نشاهدها على الشاشات، لكنها أمام عيني حقيقية، تنبض بالوقار والهيبة.
كان المكان يغصّ بالأهل والأصدقاء، والقلوب تتهيأ للحظة التي يدخل فيها رجل يندر أن يجود الزمان بمثله. فإذا ما فُتح باب المجلس ودخل الشايش نايف الخريشا، وقف الجميع صغاراً وكباراً، احتراماً وإجلالاً، كأن الهيبة تمشي على قدميها. لم يكن وقوفهم مجاملة، بل كان وقوف العزة للأصالة، وقيام الروح قبل الجسد.
كان إذا تحدث، انساب صوته بلغته البدوية العذبة، فيروي العقول قبل أن يروي القلوب. كنت أعطش لسماع كلماته التي لا تشبه سواها، كلمات يختلط فيها الحكمة بالشجاعة، والنخوة بالوفاء. كل جملة منه كانت تحمل عبق التاريخ ورائحة الأرض التي لم تخن يوماً أبناءها.
الأقارب والأصدقاء كانوا يأتون إليه لا ليشاركوه الجلسة فحسب، بل ليستمعوا إلى نصائحه، ويأخذوا من مشورته، ويقتبسوا من نوره. فما إن يبدأ بالحديث، حتى يصغي الجميع كأن الزمن توقف احتراماً لصوته..
ذهبت إلى دواوين كثيرة، وجلست بين رجال كثر، لكنني لم أجد مشهداً يضاهي ذاك المشهد. العنفوان، الأصالة، الهيبة… كلها تجمعت في حضرة رجل واحد، حتى خُيّل إلي أنني في مسلسل بدوي، لكن الفرق أن هذه الحكاية ليست من نسج خيال كاتب، بل هي واقع عشناه بأعيننا مع شيخٍ حقيقي، هو الشايش نايف الخريشا.
ولعل أصدق ما يتمناه القلب، أن تعود مثل هذه المشاهد لتتكرر في دواوين عشائرنا الأردنية كافة؛ حيث يجتمع الناس على المحبة، وتعلو الهيبة في المجالس، ويُحترم الأصيل لِما يحمل من إرثٍ وشهامة، لا لِما يملك من مال. يومها سنرى أن الأردن ما زال يحمل في كل بيت شيخاً، وفي كل عشيرة ركناً من أركان الأصالة التي لا تموت ...