في قلب العاصمة الأردنية عمان، وتحديداً وسط البلد، ظلّ رجلاً أسود البشرة بملامحه الإفريقية الحادة، واقفاً لعقود طويلة يبيع الفول السوداني الساخن على قارعة الطريق، قرب حلويات حبيبة النابلسي وفرع البنك العربي. لم يكن مجرد بائع متجول، بل بات واحداً من ملامح المكان وذاكرة الناس.
كان يُعرف بين العمانيين بلقب "النيجيري المقدسي"، ذاك الرجل الذي عاش في عمان منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى التسعينيات، وأصبح رمزاً شعبياً مألوفاً للمارّة وروّاد وسط البلد.
في حديث مؤثر دار بينه وبين أحد العابرين عام 1979، كشف "النيجيري المقدسي" عن قصته الفريدة، قائلاً بابتسامة حزينة: "أنت الرقم مليون الذي يسألني من أين أنا، وأنا الرقم مليون الذي يجيب: أنا هوساوي من نيجيريا. جئت مع والدي في قافلة حج طويلة إلى مكة، وبعد الحج توجهنا إلى القدس، وهناك مات والدي ودفنته في ترابها. ومنذ ذلك الحين قررت ألا أفارقه".
عاش الرجل في القدس وترعرع فيها، إلى أن حالت حرب عام 1967 دون عودته إليها بعد أن كان حينها في عمان. استقر في العاصمة الأردنية، يبيع الفول السوداني، ويحمل في قلبه شوقاً لا يفتر لمدينة القدس، التي ظل يردد: "لا يوجد مثل رائحة القدس وهواء القدس، فيها بركة الله كلها".
رغم بساطته، حمل هذا الرجل قصة إنسانية عميقة عن الفقد، والانتماء، والحنين، وترك أثراً لا يُنسى في ذاكرة عمان. رحل عن الدنيا وهو يحمل أمنية العودة إلى القدس ليدفن بجانب والده، لكنها بقيت أُمنية لم تتحقق.
رحمه الله، فقد عاش غريباً ومات غريباً، لكنه عاش وفياً لأبيه، عاشقاً للقدس، صابراً محتسباً.