في عام 2001م ذهبت الى المانيا في دوره تدريبية على صيانة الصخر الرملي الذي يشابه صخور البتراء، وسَكَنْت حسب البرنامج مع عائلة (Mr. Murk) وهو رجل في منتصف الستينات، متقاعد من مؤسسة البريد أو أيا كان اسمها، المهم أنه كان يعمل ساعياً للبريد؛ يوصل الرسائل والطرود البريدية الى المنازل، وهذه الوظيفه مُقَدّره في المجتمع الألماني، أو هكذا لاحظت، فهو يعرف كل الناس، وهم يعرفونه، وكان دائماً يُقَدِمني بفخر لكل من يقابلنا، وهو بطبعه لطيف، ولي معه ذكريات جميله.
بالنسبة لي لو كان بإمكاني العودة ومعي كل المانيا لما ترددت، كل شيء أصلي ومتقن الصناعة، لا يوجد في بيوتهم وأسواقهم منتجات رديئة، يبدو أن المواصفات والمقاييس عندهم منضبطة لدرجة الهوَسْ، ليس كما هو الحال عندنا كل مزابل الصناعة في الصين وغيرها تملأ اسواقنا وبيوتنا، ونضطر أحياناً أن نستبدلها قبل أن نستعملها مع كل أسف.
من هنا كنت أشتري بهوس كل ما استطعت حمله معي في طريق العودة، واستغنيت عن بعض الأشياء التي ذهبت معي لكي أستعيض عنها مما أعجبني هناك، والحقيقة كل شيء عندهم أعجبني، فاحتجت الى حقيبه متوسطة الحجم "شنطه"، فأخبرت مستر مورك أنني اريد شراء شنطه، فقال: هل يمكن الانتظار ليوم الأحد، فقلت: طبعاً ممكن، ولكن لماذا؟ فقال: يوم الأحد ستأخذ أي حقيبه تريد بدون مقابل؛ "ببلاش"، للحقيقة إستهجنت الجواب ولكنه أعجبني كونه مجاناً.
يوم الأحد صباحاً جاءني مستر مورك، وعلى باب المنزل، أخرج منديلاً وبدأ ينظف دراجه هوائية فاخره وكبيرة الحجم كان قد أوقفها على باب منزله، وكنت قد شاهدتها في مستودع أسفل منزله، وكان قال لي وقتها أن هذه الدراجة (بسكليت) كانت لإبنته التي تزوجت من أمريكي وسافرَتْ معه الى الولايات المتحدة، ولم تَعُد تلزمهم، ولذا أخرجها من مستودع بيته ووضعها على الرصيف عند باب منزله، اعتقدت أننا سنذهب بالسيارة، ولكننا سِرْنَا على الأقدام، في الشارع الذي أسكن فيه وفي معظم شوارع Oberscheifeld، وبدأ مستر مورك يُعَاين قطع الأثاث والمعدات والأجهزه وحتى الملابس الموضوعه على الأرصفه أمام المنازل، وأذكر أنه أعجبهُ كرسي وعزله عن مجموعة الأغراض ووضعه جانباً، فسألته: لماذا عزله؟ وقال: سأعود لكي آخذه، لأنني أحتاجه، ولو جاء شخص آخر الآن لن ينظر اليه لأنه سيعرف أن شخصاً آخر قد حجزه، وقال لي أي شيء ينفعك يمكن أن تأخذه بدون مقابل، المهم أننا تجولنا لأكثر من ساعتين، ووجدت قطع أثاث فاخر ومعدات وأجهزه كهربائية أصليه، وكلها نظيفه جداً، المهم أنني اخذت شنطه جلد أصلي، وفاخره بالحجم الذي أريده، وما زالت عندي، تَنَقَلَتْ هذه الشنطة مع أبنائي من الجامعه الأردنيه الى جامعة مؤته لسنوات، وسافرت معي خارج الأردن وداخله، وما زالت بنفس الألق والمتانه كأنها صُنِعت اليوم.
سألت صديقي مستر مورك، ما هذا الأمر العجيب؟! فقال: في كل يوم أحد الذي يصادف في أول كل شهر، يقوم الناس بإخراج أي شيء لديهم لا يحتاجونه، وكل الناس يتجولون ويعاينون الموجودات على أرصفة المنازل، وكلٌ يأخذ ما يحتاجه أو ما يمكن أن ينتفع به، والباقي يبقى الى الساعة الثالثة مساءً، فتتولى الكنيسة أمره، وترسل (الكنيسه) سيارات نقل كبيره ومعها عمال، ينقلون الباقي الى مكان كبير (ساحه) سَمّاها بلازا (Plaza) تقع على حدود بولندا لأن العمالة الفنيّة هناك رخيصة بالمقارنة مع العمالة الالمانية عالية الأجور، وفي هذه الساحة مشاغل لصيانة الأثاث والاجهزة الكهربائية وحتى الملابس، وبعد إصلاحها تُصنّف حسب النوع، وترسل كمساعدات للدول والمجتمعات الفقيره أو التي تعاني من الصراعات، سواء في أفريقيا أو حتى أوروبا.
أذهلتني الفكرة وروعتها وإنسانيتها، وقيمة التكافل الاجتماعي الراقية فيها، وقلت انه جهد كبير، فقال: ليس كل المانيا في يوم واحد، كل منطقه لها يوم متعارف عليه عند السكان، فهناك مناطق أول يوم اثنين في الشهر، وهناك أخرى اول سبت في الشهر، وهكذا، وتجمع المواد في مكان واسع في مناطق معينه في المانيا لصيانتها ثم تغليفها وارسالها كمساعدات.
في المنطقة التي مررت عليها في هذه الجولة، شاهدت مواد من كل صنف قيمتها السوقية عشرات الآلاف من الدنانير، كلها مقدمة مجاناً، تحدثت مع بعض أصحاب هذه الأغراض عند أبواب بيوتهم، فكانوا من الرقيّ يشرحون لنا عن هذه الادوات، وكيف تعمل، وكيف يمكن أن تستخدم، وكأنه يحاول اقناعنا أن نأخذها، أية أخلاق هذه، وأية انسانية تلك التي تَسْعَد بالعطاء فقط، أية روح تلك التي تحاول المساعدة لأي ٍكان، من حقّي أن أتفاجأ بهذا الرقّي، ومن حقّي أن أُذهل من هذه الروح الانسانية، ومن حقّي حينها أن استذكر مجتمعنا العربي الإسلامي، لِمَ تغيب فيه هذه القيم الانسانية الرائعة، ولِمَ يغيب عنه هذا التكافل الإجتماعي الرائع، ولم أجد جواباً.
في الختام أقول: هل من الممكن أن نتبنى مثل هذه الفكرة؟ وهل من الممكن أن نتعلم قيم العطاء هذه بنفس الرغبة والفرح لنَسْعَد ونُسْعِد الآخرين؟!.