عندما تحقق شعار: «كل البنادق ضد إسرائيل»، التحم الجيش والفدائيون الفلسطينيون في معركة الكرامة في 21 آذار 1968 وتم إلحاق هزيمة نكراء بـ «جيش الدفاع الإسرائيلي»، الجيش الذي لا يقهر، كما وصفته الصحافة العالمية.
كان الإسرائيليون المزهوون بجيشهم قد الحقوا قبل اقل من سنة في 5 حزيران 1967 هزيمة نكراء بالدول العربية الثلاث: مصر وسوريا والأردن. ولذلك انزلوا قواتهم في بلدة الكرامة وعبروا نهر الأردن تحت وهم أنهم في نزهة، إلى درجة أنهم دعوا الصحافيين إلى تناول طعام الغداء في المرتفعات الشرقية لوادي الأردن، على أمل أنهم سيحتلونها في سويعات ويحصلون على اكاليل الغار.
بعد 16 ساعة من المواجهة الأسطورية، تحقق الانسحاب الإسرائيلي الكامل، الذي أصر الملك الحسين على أن يكون بلا قيد وبلا شرط.
لقد أحرقتهم المدفعية الأردنية وصدمهم صمود الجنود الأردنيين والمقاتلين الفلسطينيين. ومني المعتدون بخسائر جسيمة في الأرواح والمعدات وصلت إلى 250 ضابطا وجنديا إسرائيليا و450 جريحا، مقابل 86 جنديا أردنيا و95 فدائيا فلسطينيا.
وقد قال حاييم بارليف رئيس الأركان الإسرائيلي «إن إسرائيل فقدت في هجومها على الأردن آليات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران». ويتذكر أبناء جيلي كيف أن الجيش الأردني عرض غنائم الدبابات والآليات الإسرائيلية في الساحة الهاشمية في قلب عمّان.
قال لي الأمير زيد بن شاكر، في جلسة بمنزله عام 1995 وكان رئيسا للوزراء وكنت نائبا في البرلمان، إن الغيوم التي كانت تغطي، بين فترة وأخرى، سماء الأغوار يوم الكرامة، حيّدت إلى حد كبير سلاح الجو الإسرائيلي !.
أتيح لي في ربيع عام 1969 أن أشاهد بالعين المجردة كيف تمكن المصريون من إسقاط طائرة إسرائيلية فوق قاعدة الرادار المصري التي أقيمت في مزار الكرك. كانت الطائرات الإسرائيلية تأتي من الغرب من فلسطين المحتلة تعبر فوق أهدافها ولا تقصفها إلا في طريق عودتها وهي متوجهة من الشرق إلى الغرب، لضمان أن تسقط الطائرات التي تصاب في اسرائيل، من اجل سلامة طياري تلك الطائرات الذين يقفزون بالمظلات.
أبدع المصريون في تصديهم للطائرات الإسرائيلية المغيرة على قاعدتهم في ذلك اليوم، فقد ظلوا يطلقون نيران أسلحتهم المقاومة للطائرات في خط مستقيم واحد، فشكلوا بذلك ستارة وشبكة نارية اصطدمت بها طائرة إسرائيلية كانت تلقي قذائفها على القاعدة فانفجرت في الجو.
سقطت الطائرة حطاما إلى الغرب من المزار، وخرج جمع غفير من أهالي المزار وطيّبة البطوش ومجرا الخرشان وهم مسلحون ونحن معهم أنا وزميلي المعلم جليل الهلسا، للبحث عن الطيار الإسرائيلي الذي تم العثور عليه جثة هامدة متفحمة.
كنت مدرسا غير منفرد في مدرسة مجرا الابتدائية بصحبة المعلم الصديق جليل الهلسا، كانت تربطنا صلات طيبة مع الأهالي، فقد كنا نسهر مع الشيخ النوري بن قبلان الخرشة وشقيقه الشيخ نويران ومع الأستاذ ياسين القطاونة ومع والده الشيخ طايع وشقيقه مطيع في قرية جوير المجاورة لمجرا، وظلت تربطني صلات طيبة مع عوض ابن الشيخ نويران ومع ابنه الدكتور بشار الإعلامي في التلفزيون الأردني.
وإذا كانت ثلوج الشوبك والطفيلة ووادي موسى سيبيرية مهولة، فان ثلوج مزار الكرك ومجرا، لا تقل هولا. أثلجت طيلة 4 أيام، ثلجا متواصلا كثيفا، التزم الطلاب منازلهم ونفذ مخزوننا من كاز الصوبة فقررنا جليل وأنا، أن نذهب إلى بلدة المزار القريبة ومن هناك إلى منزل جليل في الكرك.
سلكنا الطريق الذي يربط الطيبة بمجرا بالمزار وكان الوقت عصرا. مشينا نحو كيلومتر فجددت السماء «رميها». كان الثلج يتهاطل دوائر دوائر ونراه فوقنا كالصحون الطائرة. واصلنا المشي بصعوبة شديدة. وجاء فرجُ الله. سمعنا صوت سيارة خلفنا ولما اقتربت لوّحنا لسائقها فرفض أن يقف لنا !!
صعقت. أي بني آدم هذا الذي ليس فيه من المروءة والنخوة ذرة واحدة. واصلنا المشي المضني نحو 10 دقائق فوجدنا السيارة قد غرّزت وسائقها وصاحبه يدفعانها ويحاولان إخراجها من الغرز. طلبا مساعدتنا فقلت لصاحبي ما ترد على هالمجرم، توسلا واستعطفا دون أية استجابة منا، لقد ابتعدنا.
ازداد هطول الثلج وأصبحت حركتنا بطيئة جدا جدا، مرت نحو ساعتين ونحن لم نقطع بعد الطريق الذي طوله نحو 7 كيلومترات.
وصلنا إلى المزار وكانت العتمة قد حلّت، كنا شبه متجمدين ولم يكن ممكنا أن نواصل إلى الكرك بسبب إغلاق الطرق ولعدم وجود أية سيارة.
تذكرت طالب التوجيهي محمد جميل القطاونة نسيب صديقي المعلم ياسين مطيع القطاونة فدلنا احدهم على منزله الذي دخلناه في الرمق الأخير، كانت أصابعي متيبسة لدرجة أنني عجزت عن فك ربّاط البسطار العسكري الذي البسه، فقام محمد بالمهمة. ولم استطع أن اخلع المعطف الجيشي ولا الجرابات الجيشية التي كنت ارتديها فتولى محمد القيام بكل ذلك.
رفع محمد اوار صوبة الكاز حتى أصبحت حمراء كالجمر وقدم لنا القطاونة طعاما مكونا من الحليب الساخن والسمن البلدي والمربى والعسل والخبز البلدي والحلاوة فأكلت وبلعت بصعوبة، كان جليل شاحبا كالسراج النائس، فأدركت أنني في نفس حالته.
«دَمَلنا» محمد بالأغطية الصوفية فتحلحلت أصابعي وسرى الدم في عروقي وزال الغباش عن عيوني وصار بوسعي أن اسمع جيدا.
لقد عدت من الهلاك.
لم نتمكن بالطبع من الذهاب إلى الكرك فمكثنا في المزار يومين في ضيافة القطاونة الذين لهم فضل لا يسد.
ولاحقا فرحت عندما انتخب صديقي الآخر محمد صبري القطاونة رئيسا لغرفة تجارة المزار. وفرحت به جدا عندما زارني وأنا سفير في المغرب عام 2003، مع وفد رؤساء البلديات الأردني.
ولاحقا اصبح محمد رئيسا لبلدية مؤتة والمزار. وقد احتفى بأعضاء جمعية الحوار الديمقراطي الوطني أكبر احتفاء عندما زرناه في المزار.
أما محمد جميل القطاونة الذي استضافنا في منزله وأكرمنا غاية الإكرام، فقد اصبح احد المحامين المحترمين المدافعين عن الحق والعدل.
ومن طرائف ما حصل معي إنني عملت معلما مع مدير كان يتفانى في إهمال الطلاب والدوام!
كان يغادر المدرسة في الصباح، يذهب الى شراء الأغنام أو لبيعها أو لشراء القمح والشعير أو لتأجير التراكتور الذي كان يملكه.
حاولت معه، إلا انه كان وغدا، يقابل سخطي عليه بالجملة القبيحة: «يا محمد جاي تقيم الدين في مالطا».
قبل نهاية العام الدراسي ناداني ودفع إلي مجموعة من الأوراق قائلا لي: تفضل املأ الصفحات المخصصة لك. كانت الأوراق هي التقرير السري السنوي المكون من قسمين، القسم الأول يملأه المعلم ويملأ المدير القسم الثاني الذي يتضمن تقييمه للمعلم عن سنة.
هذا الوغد سيقيّمني!! قلت لنفسي ساخطا. هذا الوغد سيكتب تقريري السنوي الذي يترتب عليه الكثير بالنسبة لي.
قلت له: أنت يا عديم الذمة والضمير، ستقيّمني وستقرر مصيري؟! ابتسم ابتسامة البلادة الخاصة به وقال: اطمئن يا محمد، أنت عبّي وأنا مش رح اقصّر».
أغلقت باب الغرفة علينا بالمفتاح، سحبت المفتاح ووضعته في جيبي. كان في زاوية الغرفة فأس وكريك ومجرفة. سحبت ذراع الفأس وقلت له وسط ذهوله وامتقاع لونه: اكتب التقرير أمامي الآن يا حقير، أملأ القسم الأخير الذي يخصك من التقرير وأنا سأملأ القسم الأول الذي يخصني!!
تمنّع قليلا فهددته، فادعى انه كان سيكتب عني أفضل تقييم. قلت له: اكتب أمامي والآن.
فاخذ يسألني ماذا اكتب في هذه الخانة وأنا أقول له اكتب ممتاز، وهنا اكتب جيد جدا وهنا اكتب ممتاز، إلى أن فرغ من تعبئة التقرير فقلت له اكتب كتاب التغطية الموجه إلى مدير التربية والتعليم، فانصاع وكتب. قلت له اكتب العنوان على المغلف فكتب. قلت له سجل الكتاب في الصادر والوارد فسجّل.
حملت الكتاب معي وأودعته ديوان مديرية التربية والتعليم حيث تم تسجيله وتوثيقه. وبذلك تخلصت من أذى شخص فاسد قبيح، مطبقا قاعدة: «ناس بتخاف ما بتستحي».
نُقلت من مدرسة الدجنية، مديرا لمدرسة حمامة العموش الإعدادية عام 1973. لم يكن لقرية حمامة ولا لمدارس القرى أذنه او مراسلون يُعنون بنظافة المدارس. اشتريت عدة باكيتات سيرف وتايد وعددا من القشاطات والمكانس.
ظهر يوم الخميس قلت للطلاب: غدا سنشطف وننظف مدرستنا، فأرجو ممن يرغب في المساعدة من طلاب المرحلة الإعدادية باستثناء البنات، أن يحضر على الساعة العاشرة صباحا.
حضر طلاب عديدون وحضر معلمو المدرسة وفي مقدمتهم: سميح شداد وإبراهيم السوقي ومصطفى الرابي.
أخرجنا المقاعد من كل الصفوف ووضعناها في الساحة تحت الشمس، خلعت حذائي وجراباتي وشمّرت بنطلوني ودلقت أول سطل ماء في غرفة التدريس وحملت القشاطة وأخذت أشطف، فتدافع الطلاب وجردوني من القشاطة واخذوا ينظفون غرف التدريس بهمة ومتعة فأصبحت تلمع من شدة التنظيف.
كانت سيارات التجنيد تلف على المدارس تحض الطلاب الكبار على الالتحاق بالعسكرية، كنت ادخل إلى الصفوف وأقول للطلاب إن وفدا عسكريا، سيدخل عليهم بعد قليل محاولا إقناعهم بمزايا التجنيد، وأضيف إن استمرارهم في الدراسة سيمكنهم من الالتحاق بالجيش ضباطا تلمع النجوم على أكتافهم.
- سيلاحظ الأخوات والإخوة الأعزاء، الذين يتابعون هذه السردية، والأصدقاء والطلاب والمعلمون الذين كانوا شهودا وأطرافا في إحداثها، أنني قفزت عدة قفزات زمنية واسعة، ولم امض في التسلسل الزمني، الذي سأعود اليه عندما يحضر بتلقائية لا أتدخل فيها.
وبالإشارة الى طلباتكم المتكررة بطباعة هذه الذكريات في كتاب، فإنني أغتنم ظروف هذه الجائحة لأخصص وقتا مناسبا لتحقيق رغباتكم الغالية علي. وعلى رأي إخواننا المصريين «أحلام سيادتكم أوامر» !