ما تزال الناس تتساءل عن سر الراحة البدنية التي يحصل عليها من ينام في المفرق يومين او ثلاثة.
وما يزال سرا مستغلِقا، الرابط والسبب الذي يجعل زوار وأهل المدينة مشدودين إليها بعرى لا تنفصم، ويجعل أهلها في ارتباط فريد بها.
وهذه واحدة من قصص هذا الارتباط.
اتفق أبناء المفرق المهاجرون الى اميركا على اللقاء في المدينة الأعجوبة لاس فيغاس، بعد غربة عن المفرق وانقطاع بينهم دام نحو نصف قرن. وهم: الأب أميل حداد، الشاعر سرحان النمري، توفيق النمري، رياض النمري، الكابتن فراج فراج، فايز عوده، الياس عوابده، الشاعر عيسى بطارسه، ابراهيم مرجي وفكتور نخو.
توافدوا من كل ولايات اميركا الى تلك المدينة الصحراوية الغارقة في الأضواء والألوان والجمال. التقوا هناك وتسامروا وتذاكروا وفرحوا فرحا لا يوصف، كما اخبرني الصديق الشاعر عيسى بطارسة، الذي استضافني في منزله وقال لي: لا يعقل ان تأتي الى اميركا وترجع الى الأردن دون ان تزور لاس فيغاس.
هاودته وانطلقنا بسيارته الفارهة، نتبادل قيادتها لمدة 5 ساعات، الى تلك المدينة الأسطورة.
كان شباب المفرق يندفعون كل مساء الى طريق جرش، يهربون من الهجير والصهد الى النسمة الرطبة الفريدة. اسراب من الشباب المتحمس الفوار، يتحدثون في كل شيء، في السياسة والجنس والشعر وتحرير فلسطين والجزائر والوحدة العربية وكوهين. والسلاح النووي والمقارنة بين قوتي اميركا والاتحاد السوفياتي. وحزب البعث وحركة القوميين العرب وحزب التحرير وجمال عبد الناصر وامين الحافظ وصلاح جديد.
كنا نختلس لحظات من جفاف السياسة، وننفلت من المسار اليومي الصاخب الى عوالم الفتيات الزاهية الملونة الرطبة، الى عالم الأنثى السحري البخوري السحابي، عالم الشغف واللهفة والنشوة والخدر وزهو النجاح في اختبار القبول المبكر.
عملت في العطلة الصيفية في مطعم المعلم سالم الشاويش، الواقع في اقصى الجهة الشرقية من المفرق، على خط بغداد-دمشق-عمان، كان المعلم سالم يغيب كثيرا، دلّني على قواعد العمل الرئيسية ومضى.
كنت في كل مساء، انقع في الماء وبايكربونات الصوديوم، نحو 3 كيلوغرامات من الحمص ذي الحبة الكبيرة عيار 12. وفي الصباح الباكر اسلق نصف الكمية وادقها واعمل منها حمصا بالطحينية وفتة حمص ومسبّحة. واطحن نصفها الاخر لعمل الفلافل. كان طحن حمص الفلافل يتم يدويا، على مفرمة كمفرمة اللحمة. وكان الطحن مرهقا شاقا يهد الحيل. ثم كنت أقوم بإضافة البهارات والملح وكمية قليلة من البقدونس.لاعمل من تلك العجينة مئات حبات الفلافل الشهية.
أصبحت قادرا على تلبية طلبات الأكل، فأبدأ على الساعة العاشرة صباحا في طبخ الطبق الذي يحدده المعلم سالم ويشرف عليّ وانا اتقن تنفيذ توجيهاته، الى ان اصبح يعتمد علي اعتمادا تاما.
وعندما اجتمعنا في مدرسة بصيرا الإعدادية عام 1970. كنا 6 معلمين نسكن في بيت مستأجر واحد: مديرنا خليل الطرشان وعبد مقبل الهلول وإبراهيم العواجي ومحمد القرارعة وموسى القرارعة وانا.
كنتُ طبّاخ الفريق. وكان عبد مقبل وإبراهيم العواجي القناصين اللذين هما من امهر من عرفت من القناصين. كانا يغيبان ساعتين او ثلاثا، فيعودان بعدد من طيور الحجل والشنانير المكتنزة. فيتولى الشباب تجهيزها واتولى تحميرها وطبخها مع كمية كبيرة من البصل والفلفل الحار والبطاطا والبندورة.
وبدون ادعاء ومنفخة، كانت رائحة تلك الطبخة «بتجيب التايه» !!
لقد بقيت 9 شهور طباخ فريق المعلمين في مدرسة بصيرا الإعدادية، قبل 50 عاما بالتمام والكمال، دون ان يتسمم احد منا غذائيا !! ودون ان يتم عزلي واستبدالي، مما يدلل على النجاح. ولا اظن ان اعتمادي ذاك كان بسبب انعدام البديل !!
وحين ترشحت للانتخابات النيابية عن محافظة الطفيلة عام 1993، حصلت على دعم قوي معلن، من زملاء تلك الأيام الجميلة، أسهم في نجاحي وحصولي على المرتبة الأولى.
كان معلمي سالم الشاويش نبيلا، كريما، طيبا، هادئا، ودودا، ماهرا وذا وجه باسم.
كنت آكل ما طاب لي في ذلك المطعم، «تبغددت». وواظبت على تناول طبق الفطور المفضل حتى اليوم: الحمص باللحمة المقلية بالسمن البلدي.
لقد عوّضت كثيرا من الحرمان، بعلم المعلم النبيل الطيب. وتحررت من استعباد «المذبلة» التي كانت وجبة الغداء شبه اليومية، وهي باختصار قلاية البندورة بدون لحمة !! كذلك اكلت «كفتة» بما فيه الكفاية.
كنت اعمل بمتعة كبيرة، نحو 20 ساعة في اليوم، من الساعة الرابعة فجرا وحتى منتصف الليل، ولم اكن أشعر بالتعب او الملل. لقد انصرفت الى عملي كليا، لم يكن يراقبني احد، ولم يكن مطلوبا مني ان اعمل طيلة تلك الساعات.
ولما لاحظ المعلم سالم انني اضع كل جهدي وعقلي وقلبي في عملي، ضاعف اجرتي التي كانت خمسة قروش في اليوم.
لقد تكررت معي حكاية مضاعفة اجرتي مرتين أخريين، بسبب انكبابي التام وعكوفي الكامل على العمل الذي يوكل إليّ، واتقاني التام له. فالعمل عندي أولا وعاشرا وألفا.
كانت المرة الأولى في صحيفة الاخبار عندما ضاعف فؤاد سعد النمري راتبي الشهري وكان 90 دينارا. وكانت المرة الثانية عندما عملت براتب شهري مقداره 150 دينارا في الشهر، مع مريود التل وطارق مصاروة، سكرتيرا لتحرير مجلة الأفق السياسية الأسبوعية التي اصدراها عام 1982 وتم اغلاقها بعد 6 شهور.
كنت اعمل في ذلك المطعم الذي يقع على خط بغداد- دمشق- عمان. بمتعة لا تدانيها متعة، ابدأ من الساعة الرابعة صباحا او قبل ذلك أحيانا، الى ما بعد منتصف الليل. ولما رأيت ان العودة عند منتصف الليل الى البيت، الذي يقع خلف سكة الحديد في الجهة الغربية من المفرق، متعب وشاق، وترافقه مخاطر مهاجمة الكلاب الضالة، احضرت من البيت فرشة وغطاء خفيفا وأصبحت انام في المطعم. أُغلِقُ البابَ واجمعُ اربعَ طاولات، افرش عليها «يطقي» وانامُ اعمقَ نوم يحصل عليه انسان.
كنت سلطان زماني. اتمتع واتلذذ بالقيادة وبالادارة وبالثقة التي اولانيها المعلم سالم الشاويش، الذي كان يحضر الى المطعم في العصاري يمكث مدة 3 ساعات، اعمل له خلالها «نفسي تمباك عجمي» يكركر عليه وهو يلعب طاولة الزهر امام المطعم مع اصدقائه. ثم ينصرف لاشغاله الاخرى، بعد أن يستلم «غلة» المطعم الوفيرة، مطمئنا إلى أن المطعم بيد امينة.
بعد 35 عاما، عندما كنت وزيرا للشباب في حكومة المعلم الكبير دولة عبد الكريم الكباريتي، الذي كان يضع فيّ ثقة مطلقة، ذهبت الى مدينة المفرق وقدمت أحرّ التعازي لأسرة وزوجة معلمي الطيب الكريم الودود الشهم، العم سالم الشاويش.