منذ أن خطت البشرية خطواتها الأولى نحو التمدن، كان التراب الأردني هو اللوحة التي رُسمت عليها ملامح " الإنسان الصانع ". في هذا المدى الممتد من البادية إلى الأغوار، لم يكن الأردني يوما مجرد "كومبارس" في مسرح التاريخ، أو عابر سبيل في محطة انتظار. بل كان الأردن، وما زال، هو " المرساة " التي استقر عليها العالم حين تاه في بحار الترحال، والقلب النابض الذي ضخ الحياة في عروق الحضارات الإنسانية المتعاقبة. إننا هنا لا نتحدث عن جغرافيا صامتة، بل عن أرضٍ تتحدث بلسان الحجر، وتعلن للعالم أنها كانت " الأصل " حين كان غيرها سرابا.
أولاً: " عين غزال "
... فجر الوعي الإنساني
بينما كان العالم لا يزال يكافح في عتمة الصيد والتنقل والترحال، كان الإنسان الأردني في " عين غزال " ( شمال شرق عمان ) قبل أكثر من 9000 عام، يشيد أولى قلاع التمدن. لم تكن مجرد بقعة للسكن، بل كانت "ميتروبوليس" حقيقية سبقت عصرها بتنظيمها٨ الاجتماعي المبهر والمتميز وقتئذ.
عظمة التجسيد: هناك، نُحتت أقدم تماثيل بشرية عرفتها عين الإنسان، لتكون دليلاخ قاطعا على وعي فني وروحي وفلسفي لم تدركه البشرية في أي مكان آخر من العالم آنذاك.
فلسفة الاستقرار: لقد طوع الإنسان الأردني الأرض، فاستأنس الزرع وبنى البيوت، ليؤسس لمفهوم " الوطن " قبل أن تظهر الإمبراطوريات العظمى بآلاف السنين.
ثانياً: السيادة والمعدن .... من " فينان " إلى مسلة " ميشع "
خلاف للمزاعم التي تحاول تجريد هذه الأرض من ثقلها السياسي، تنهض الأدلة والشواهد لترسم صورة ممالك سيادية امتلكت ناصية القوة والتدبير:
أ ) الريادة الصناعية: في " فينان " بوادي عربة، أسس الأجداد أضخم مراكز تعدين النحاس في العالم القديم؛ لم يكونوا عابري سبيل، بل كانوا مهندسين وصناعيين غيروا وجه الاقتصاد العالمي القديم.
ب ) صوت السيادة: وفي قلب مؤاب، انتصبت مسلة الملك " ميشع " ( حجر مؤاب ) كأقدم وثيقة سياسية مدونة بالأبجدية الوطنية، لتصرخ في وجه التاريخ بأن هذه الأرض كانت دائما مركزا للقرار والتدوين، لا مجرد تابع للقوى المجاورة.
ثالثاً: الأنباط .... حين يذعن المستحيل لإرادة الأردني
أما الأنباط، فقد قدموا للبشرية المعجزة الأكبر في كيفية قهر الطبيعة. لم تكن البترا مجرد نحت في الصخر، بل كانت ثورة في " الهندسة والحصاد المائي ":
العبقرية التقنية: من خلال شبكة سدود وقنوات بالغة التعقيد، حولوا الجبال القاحلة إلى جنات وارفة، وأثبتوا أن الأردن لم يكن طريقا للتجارة فحسب، بل كان " الناظم " لها والقلب الذي يدير تدفقاتها عبر القارات بذكاء إنسانها قبل موقعها.
رابعاً: المحورية الاستراتيجية .... شراكة لا مجرد مرور
إن ما يُسمى " ممراً " " او ارضا فارغة أو ثانوية "
هو في الحقيقة " مركزية استراتيجية " فرضها الإنسان الأردني ببراعة. ففي مدن " الديكابوليس " ( كجرش وأم قيس وإربد وعمان ... الخ )، لم يكن الأردنيون متفرجين على التاريخ، بل كانوا صانعين لحضارة كلاسيكية بصبغة محلية. واستمر هذا الفعل في العصر الإسلامي، حيث كانت القصور الصحراوية منارات حكم وفكر وثقافة، وقلاع الكرك وعجلون والشوبك وغيرها دروعا صلبة حمت هوية الأمة ومصيرها.
وخلاصة القول : الحقيقة المكتوبة بالعرق والدم
إن الرد على من يحاول تهميش دور الأردن لا يأتي بالشعارات، بل بالآثار الضاربة في جذور الزمن. فمن أول رغيف خبز في التاريخ صُنعت عجينته في " موقع الشبيقة " بالبادية الشرقية، إلى أعاجيب البترا الصخرية، نحن أمام شريط سينمائي متصل من الفعل الحضاري.
ومختصر الكلام سيبقى الأردن هو " المختبر الأول " الذي تعلمت فيه البشرية كيف تستقر وتنتج وتبدع. نحن لا نسكن أرضا عابرة، بل نقف فوق طبقات متراكمة من المجد، بناها الأجداد بعرقهم وحموها بدمائهم، لنقول للعالم أجمع بملء الفم: هنا ولدت الحضارة، ومن هنا تستمر الرحلة.