في المساء جلست اكتب مقالتي بعنوان "صناعة الطواغيت" عبيد ملكوا أمر حياتنا فصنعوا الطواغيت، وانا اشرب قهوتي ببطء، اريد أن يطيل الوقت وانا اكتب أكثر مما ينبغي.. على الطاولة أمامي ورقة بيضاء.. ودفتر ملاحظات.. وقلم حبر يتحسس بين أصابعي قلقًا لا يعرف من اين يبدأ..
كان علي أن اكتب شيئًا… أي شيء. مقالًا.. رسالة.. اعترافًا.. لا يهم... المهم أن املا الصفحة.. لكن الأفكار، بعنادٍ غريب، كانت ترفض أن تتشكّل.. ليس لأنها غير موجودة، بل لأنها كانت كثيرة جدًا جدا، مزدحمة كشارعٍ في ساعة ذروة، حتى تحوّل الصخب إلى صمتٍ خانق. تنفّست بعمق، ثم قلت لنفسي:
"ولماذا عليّ أن أكتب رسالة أصلًا؟"
كان هذا السؤال كافيًا ليوقظ في داخلي ضوءًا صغيرًا، أشبه بلمبة تُضيء بعد تردّد فابتسمت وأعدت النظر إلى الورقة البيضاء ثم وضعت القلم عليها… ولم اكتب شيئًا..
تركتها كما هي بيضاء خالية من كل ما يُتوقع أن تحمله الكلمات عادة..
تأمّلت الصفحة طويلا شعرت لأول مرة أن البياض ليس فراغًا.. بل امتلاء من نوع خاص البياض كان يقول شيئًا لم تستطع الكلمات قوله كان يشبه عذرًا لا يحتاج إلى شرح، واعترافًا لا يحتاج إلى تبرير، ودهشةً لا تحتاج إلى تفسير.
كانت تذكرني بشيء نسيته منذ زمن: أن الرسائل ليست دائمًا ما نكتبها، بل أحيانًا ما نتجنب كتابته.
تذكّرت حين كانت صغيرة كنت احب الجلوس قرب النافذة في أي مكان اخرج اليه، لم اكن اعرف لماذا تعجبني تلك اللحظات التي لا يحدث فيها شيء، لم تكن هناك قصة ولا مغامرة، فقط مناظر ساكنة لكنني كنت اشعر بشيء يتشكّل فيها، شيء لا اسم له، لكنني كنت افهمه دون أن يشرح ربما كان ذلك درسا مبكرًا في أن الصمت أيضاً كلام.
عدت إلى الورقة ولم اغير رأيي تركتها بيضاء، وكتب جملة واحدة في زاوية الصفحة :"هذا ليس نصا بلا رسالة… هذا نصّكم أنتم "
فـ كل من اكتشف سر الكتابة يعرف أن بعض الرسائل لا تُكتب لتُقرأ، بل تترك لتكتشف.. كتبت نصاً بلا رسالة.