الصابونة النابلسية ليست مجرد منتج تجميلي، بل هي قصة تراثٍ عريق تمتد جذورها إلى أكثر من ألف عام، وتختصر في رائحتها وتكوينها حكاية مدينة نابلس وصمودها الثقافي والاقتصادي عبر القرون.
يُصنع هذا الصابون الفريد من زيت الزيتون البكر، الممزوج بالصودا الكاوية والماء، دون أي إضافات صناعية، ما يجعله صديقًا للبشرة وذا فوائد طبية وتجميلية معروفة منذ القدم. وما زالت مصانع نابلس حتى اليوم تحافظ على الطريقة اليدوية القديمة في تصنيعه، بدءًا من الطبخ البطيء الذي يستمر أيامًا، مرورًا بعمليات الصبّ والتقطيع اليدوي، وصولًا إلى التجفيف الطبيعي في المعامل الحجرية القديمة.
جذور تعود إلى قرونٍ من الحرفية
تعود بدايات صناعة الصابون النابلسي إلى القرن العاشر الميلادي، حين تحولت وفرة زيت الزيتون في فلسطين إلى مصدر لصناعةٍ تقليدية راقية. وأشار الرحالة المقدسي إلى أن نابلس كانت في ذلك العصر مركزًا لتصنيع الصابون وتصديره إلى مختلف البلدان.
وفي القرن الرابع عشر، ازدهرت الصناعة وأصبحت مصدر فخرٍ للعائلات النابلسية مثل آل طوقان والشكعة والطبيله، الذين امتلكوا صباناتٍ خاصة، شكّلت علامة مميزة للمدينة واقتصادها. وقد وصف المؤرخون الصابون النابلسي بأنه "الأكثر جودة وشهرة في المشرق”، فيما وصلت شهرته إلى أوروبا خلال العهد العثماني.
من نابلس إلى العالم
مع الحملات الصليبية، انتقلت تقنية صناعة الصابون من نابلس إلى مرسيليا الفرنسية، لتولد منها صناعة "صابون مرسيليا” المعروف عالميًا. ووصلت شهرته إلى القصور الملكية، حيث يُقال إن الملكة إليزابيث الأولى كانت من مستخدميه لجودته العالية ونقائه الطبيعي.
وبحلول القرن التاسع عشر، بلغ عدد المصانع في نابلس أكثر من ثلاثين، تصدّر منتجاتها إلى الشرق الأوسط وأوروبا، لتصبح المدينة عاصمة الصابون في المنطقة.
التحديات الحديثة ومحاولات الإحياء
مع التطور الصناعي وظهور المنتجات الكيميائية في منتصف القرن العشرين، تراجعت صناعة الصابون النابلسي أمام المنافسة التجارية والقيود الاقتصادية. ومع ذلك، بقيت عدة مصابن تقليدية، مثل صبانة طوقان والشكعة، تحافظ على هذا التراث بإصرارٍ وإيمانٍ بأنه جزء من الهوية الفلسطينية.
اليوم، يُعاد إحياء هذه الصناعة من خلال مشاريع سياحية وثقافية، وتحويل بعض المصانع القديمة إلى مراكز تراثية تعرّف الزوار بتاريخ الصابونة النابلسية، إضافة إلى تطوير منتجات عصرية ممزوجة بالعطور الطبيعية.
رغم كل التحديات، يظل الصابون النابلسي رمزًا للصمود الفلسطيني، شاهدًا على التاريخ، ومثالًا حيًّا على كيف يمكن للتراث أن يقاوم الاندثار، محتفظًا بعبيره الذي يعطر الذاكرة الفلسطينية والعربية.