في الوقت الذي تمضي فيه الحكومة بخطوات متدرجة نحو إصلاح مالي وإداري شامل، يبرز قرار وزارة الإدارة المحلية الأخير مثالًا عمليًا على السياسات المتوازنة التي تراعي احتياجات المواطن وتدعم كفاءة مؤسسات الدولة. قرار جاء ليضع العلاقة بين المواطن والبلديات على أسس جديدة من العدالة والاستدامة، ويفتح الباب أمام مرحلة أكثر انضباطًا وفاعلية في الإدارة المحلية.
يشكّل قرار وزارة الإدارة المحلية المتعلق بتسديد المبالغ المترتبة على المواطنين لصالح البلديات وأمانة العاصمة، والتي تُقدّر بنحو مليار دينار، محطة مهمة في مسار الإصلاح المالي والإداري الذي تتبناه الحكومة، إذ يهدف القرار إلى معالجة تراكمات مالية طال أمدها، وإعادة تنظيم العلاقة المالية بين المواطن والبلديات على أسس أكثر عدالة واستدامة.
القرار، الذي جاء بموافقة مجلس الوزراء، يعكس رؤية حكومية متوازنة بين التسهيل على المواطنين والتيسير للبلديات. فمن جهة، يتيح للمواطنين فرصة لتسديد التزاماتهم دون أعباء إضافية أو فوائد متراكمة، مما يشجّع على الامتثال المالي الطوعي ويخفف الضغط الاقتصادي عن الأسر. ومن جهة أخرى، يوفر للبلديات سيولة مالية تحتاجها بشدة لتنفيذ مشاريعها وخططها التنموية، ويضمن انسيابًا مستقرًا لمصادر التمويل التي كانت تعاني من التعثر أو الانقطاع.
وما يُحسب لوزير الإدارة المحلية المهندس وليد المصري، ولمجلس الوزراء، هو إدراكهما العميق لحاجة البلديات إلى بيئة مالية مرنة ومستقرة تمكنها من أداء مهامها الأساسية في تقديم الخدمات وتنمية المجتمعات المحلية. فالبُعد الإصلاحي في القرار لا يقتصر على الجوانب المالية فحسب، بل يمتد إلى تحفيز البلديات على تحسين أدائها الإداري والتنموي من خلال رفع كفاءتها في إدارة الموارد واستثمارها بطرق أكثر إنتاجية.
كما يعكس القرار فهمًا دقيقًا للعلاقة التبادلية بين المواطن والبلدية؛ فكلما شعر المواطن أن الدولة تسهّل عليه وتراعي ظروفه الاقتصادية، زاد التزامه تجاه مؤسساتها، مما يعزز الثقة المتبادلة ويدعم مفهوم الشراكة المجتمعية في إدارة الشأن المحلي.
أما على المستوى الاقتصادي الأوسع، فإن هذه الخطوة تأتي منسجمة مع توجهات الإصلاح المالي والتحفيز الاقتصادي الوطني، الذي يسعى إلى تنشيط الدورة الاقتصادية وتحريك السيولة في الأسواق المحلية. فالمبالغ التي ستدخل إلى صناديق البلديات نتيجة هذا القرار ستنعكس مباشرة في مشاريع خدمية وبنى تحتية، ما يخلق فرص عمل، ويحرك قطاعات محلية متعددة كالبناء والمقاولات والنقل والخدمات العامة.
إن ما بين "التسهيل” و"التيسير” في هذا القرار ليس مجرد تلاعب لغوي، بل هو معادلة متوازنة بين العدالة المالية والتنمية المستدامة؛ إذ إن التسهيل على المواطن في السداد لا يعني التهاون في تحصيل الحقوق، بل يعكس حكمة في إدارة العلاقة المالية بما يضمن استمرارية الخدمات وفاعلية المؤسسات.
وفي الختام، فإن هذا القرار يشكّل امتدادًا لرؤية الدولة الحديثة في الإدارة المحلية، تلك التي تقوم على تمكين البلديات كمحركات تنمية، وتعزيز الثقة بينها وبين المواطنين، وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة. إنه نموذج عملي لكيفية الجمع بين الإصلاح المالي والبعد الاجتماعي، وبين السياسات الحكومية الكبرى واحتياجات المواطن اليومية، في معادلة تُعبّر عن جوهر الإدارة الرشيدة وعمق الرؤية الوطنية.