تحط عشرات الأنواع من الطيور المهاجرة رحالها في مرصد طيور العقبة، لتجد راحتها على أحد أهم مسارات الهجرة في العالم، وهو مسار حفرة الانهدام - البحر الأحمر، الذي يشكل شريانا بيئيا نابضا بالحياة، ونافذة مفتوحة على التنوع الحيوي العالمي.
المرصد الذي يقع في قلب المدينة الساحلية، يشكل نقطة التقاء بين الطبيعة والعلم والسياحة، ويعكس قدرة العقبة على احتضان الحياة البرية في تناغم مع التنمية الحضرية، لا سيما هذه الأيام التي تتنوع فيها الطيور المهاجرة التي تحط في المرصد، من طيور صغيرة تكاد لا ترى، إلى طيور ضخمة تلفت الأنظار، وكلها تشترك في هدف واحد، وهو الراحة من عناء الهجرة، والاستفادة من بيئة المرصد الغنية بالمياه والنباتات والهدوء.
ومن بين هذه الطيور، يسطع حضور النحام الوردي أو الفلامنغو، الذي يضفي على المكان لمسة من السحر والجمال، وقد وصل مؤخرا إلى المرصد قادما من تركيا في طريقه إلى أفريقيا، حيث يجذب عدسات المصورين ويثير اهتمام الباحثين وهواة مراقبة الطيور الذين يتوافدون إلى العقبة خصيصا لمشاهدته.
يقول الدكتور محمد الجرابعة، إن مرصد طيور العقبة غني ببيئة صحية وآمنة فريدة تجمع طيور العالم فيه لتحط رحالها بعد رحلة شاقة، مؤكدا أن وجود طائر الفلامنغو في المرصد مؤشر بيئي مهم، فهو طائر حساس جدا لجودة المياه والبيئة، ووجوده هنا يعني أن المرصد يوفر بيئة صحية وآمنة للطيور المهاجرة.
ويشير المواطن طارق العدوان إلى أنه لم يتوقع أن زيارة مرصد طيور العقبة ستترك في نفسه هذا الأثر العميق، حيث كان يبحث عن نشاط مختلف يقوم به مع أطفاله، فاقترح عليه أحد الأصدقاء زيارة المرصد، وقال إنه مكان مميز في هذا الموسم.
وبالفعل، شعر العدوان وأطفاله أنهم دخلوا عالما آخر مليئا بالسكينة والجمال الطبيعي الذي لا يوصف بالكلمات، مؤكدا أنه منذ اللحظة الأولى استقبلتهم أصوات الطيور المتنوعة، بعضها لم يسمعها من قبل، وألوانها كانت كأنها لوحات فنية تتحرك أمامهم.
"الفلامنغو" يجذب الأنظار
ويضيف أن أكثر ما شد انتباهه كان طائر الفلامنغو، بلونه الوردي الساحر، يقف بهدوء في المياه وكأنه يعرف أنه نجم المكان، مشيرا إلى أن أحد المرشدين قال لهم إن هذه الطيور جاءت من تركيا في طريقها إلى أفريقيا، وإن العقبة تشكل محطة استراحة مهمة لها، وهذا جعله يشعر بالفخر بأن مدينتهم الصغيرة تحتضن هذا الكم من الحياة البرية وتلعب دورا عالميا في حماية التنوع الحيوي.
والطيور لا تأتي فرادى، بل في أسراب، وكل نوع يحمل قصة مختلفة ومسارا فريدا وتحديات خاصة، بعضها يقطع آلاف الكيلومترات من أوروبا وآسيا، ويواجه تغيرات مناخية قاسية، وعوائق طبيعية وبشرية، قبل أن يصل إلى العقبة التي يجد فيها الطمأنينة، ويستعيد نشاطه، ويمنح الزوار فرصة نادرة للتأمل في جمال الطبيعة وتنوعها.
من جهته، أكد مدير مرصد الطيور في العقبة المهندس فراس الرحالة، أن المرصد يشهد هذه الأيام واحدة من أكثر الفترات نشاطا وتنوعا في حركة الطيور المهاجرة، حيث تستقبل بيئات العقبة عشرات الأنواع القادمة من مختلف القارات، في رحلة الهجرة الموسمية التي تمر عبر ثاني أهم مسار لهجرة الطيور المحلقة في العالم، وهو مسار حفرة الانهدام - البحر الأحمر.
وأشار إلى أن هذه الطيور لا تأتي عشوائيا، بل تختار العقبة تحديدا لما توفره من بيئة آمنة، ومصادر مياه، وغطاء نباتي متنوع، يجعلها محطة استراحة مثالية قبل مواصلة رحلتها الطويلة.
وبين الرحالة، أن وجود طائر الفلامنغو في المرصد هذه الأيام، هو دليل حي على أهمية الموقع، وعلى جودة البيئة التي يوفرها، لافتا إلى أن فريق المرصد يقوم بعمليات مسح وتوثيق دقيقة، تسهم في إثراء قواعد البيانات العالمية حول الهجرة والتنوع الحيوي.
وأكد العمل على إشراك المجتمع المحلي والزوار في هذه التجربة، من خلال تنظيم جولات تعليمية وتوعوية، تتيح لهم التعرف على الطيور وسلوكياتها، وتزرع فيهم حب الطبيعة والوعي البيئي، مضيفا أن حماية الطبيعة يمكن أن تكون رافعة للتنمية، وأن الطيور المهاجرة تحمل معها رسائل بيئية وسياحية وإنسانية تستحق أن تروى وتحتفى بها.
ويجد هواة مراقبة الطيور، من المحليين والأجانب، في المرصد، وجهة مثالية لممارسة هوايتهم، حيث يمكنهم مشاهدة أنواع نادرة، وتوثيق سلوكياتها، والتفاعل مع الطبيعة بشكل مباشر.
نظام بيئي متكامل
يقول المهندس رائد الحسن، أحد منظمي رحلات مراقبة الطيور في العقبة "إن مرصد الطيور يقدم تجربة مشاهدة وتواصل مع الطبيعة، حيث يشعر الزائر أنه جزء من هذا النظام البيئي المتكامل، وكثير من الزوار يخبروننا أن زيارتهم للمرصد كانت من أكثر اللحظات سعادة في حياتهم، وأنهم شعروا بارتفاع في تركيز الدوبامين لديهم، وهو ما يؤكده العلم أيضا".
وتكتسب العقبة من هذا النشاط البيئي بعدا جديدا، يعزز من مكانتها كوجهة سياحية بيئية، لا سيما بوجود الطيور المهاجرة في هذا الموسم الذي يشكل فرصة ذهبية للترويج للمدينة كمكان للغوص والتسوق، والأهم كمحطة طبيعية فريدة تجمع بين البحر والصحراء والطبيعة البرية.
ويؤكد المتخصص في السياحة البيئية يوسف هلالات، أن السياحة البيئية في العقبة تشهد نموا ملحوظا، وباتت العقبة تحتضن تجارب بيئية أصيلة تلامس وجدان الزوار وتعيد تشكيل علاقتهم بالطبيعة، مشيرا إلى أن مرصد الطيور يلعب دورا محوريا في هذا النمو وأصبح من أبرز نقاط الجذب السياحي البيئي في المملكة، خاصة في مواسم الهجرة، ويقدم تجربة فريدة من نوعها تجمع بين الجمال الطبيعي والمعرفة العلمية والتأمل الروحي.
وقال إن الزوار اليوم يبحثون عن لحظة تواصل حقيقية مع الطبيعة، وهذا ما يوفره المرصد بامتياز، حيث ترى طائرا مهاجرا قادما من آلاف الكيلومترات يحط رحاله في بيئة آمنة وسط العقبة، هو أمر يوقظ في النفس مشاعر الدهشة والامتنان، ويمنح الزائر تجربة لا تنسى.
ويشير هلالات إلى أن السياحة البيئية في العقبة بدأت تأخذ مكانها على خريطة الاهتمام الدولي، خصوصا مع تزايد أعداد هواة مراقبة الطيور والمصورين والباحثين الذين يقصدون المدينة لهذا الغرض، مؤكدا أن العقبة لديها فرصة ذهبية لتوظيف هذا المورد الطبيعي في الترويج للمدينة كمركز بيئي وإنساني يحتضن الحياة البرية ويقدم نموذجا للتنمية المستدامة.
وتمتد أهمية المرصد إلى دوره العلمي والبيئي، حيث يعد من أبرز الحلول التكيفية القائمة على الطبيعة في مواجهة تحديات المناخ وشح المياه، لا سيما أن الموقع الجغرافي للمرصد، على مسار حفرة الانهدام - البحر الأحمر، يجعله نقطة إستراتيجية لرصد التغيرات البيئية، ومتابعة حركة الطيور، وتحليل تأثيرات المناخ على التنوع الحيوي.
تطوير سياسات بيئية
وبحسب الباحثة في مجال التغير المناخي المهندسة إلهام الشرفات، فإن المرصد يمثل نموذجا حيا لكيفية توظيف الطبيعة في مواجهة التحديات البيئية، ومن خلال مراقبة الطيور، يمكن فهم تأثيرات التغير المناخي وتطوير سياسات بيئية أكثر فاعلية.
وتعمل الجهات المعنية، من مؤسسات حكومية وجمعيات بيئية، بشكل متكامل، للحفاظ على هذا المورد الطبيعي وتطويره، وتعزيز دوره في التنمية المستدامة، حيث إن هناك جهودا مستمرة لتحسين البنية التحتية للمرصد، وتوفير أدوات مراقبة حديثة، وتنظيم فعاليات تعليمية وتوعوية تستهدف المدارس والجامعات والزوار.
وتقول الفنانة الكويتية جميلة الجابر، التي زارت المرصد ورسمت لوحة تشكيلية مستوحاة من طيور العقبة خلال مهرجان أيلة للفنون، إن كل طائر يحمل قصة، وكل جناح يروي رحلة، والمرصد يمنح فرصة لرؤية العالم من منظور مختلف، أكثر إنسانية وارتباطا بالطبيعة.
ونشأ المرصد في محيط محطة معالجة مياه الصرف الصحي بالعقبة، حيث خلقت المسطحات المائية الناتجة عن المعالجة الطبيعية بيئة رطبة اصطناعية جذبت الطيور المهاجرة. ومع التطور التقني الذي قلص من تلك المسطحات، برز التحدي الأكبر أمام استدامة المرصد.
غير أن الشراكة بين الجمعية الملكية لحماية الطبيعة -التي تدير عشر محميات طبيعية في المملكة وتشرف في بعضها على برامج سياحة بيئية نوعية- وسلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة -التي تحتضن أكبر محمية طبيعية في الأردن إضافة إلى المحمية البحرية الوحيدة- أفرزت قيمة استثنائية للمرصد، باعتباره فصلا مختلفا من الحماية البيئية يقوم على ممارسة البيئات الاصطناعية كحلول قائمة على الطبيعة. وأسفر التعاون عن إنشاء مسطحات مائية بديلة، ضامنة استمرارية المرصد كواحة آمنة للطيور في رحلة هجرتها.
وفي العام الماضي، صنف مرصد طيور العقبة كثاني أهم قصة نجاح عالميا في فئة البيئة والمناخ ضمن جوائز "الوجهات الخضراء"، ونالت مدينة العقبة شهادة "وجهة خضراء" تقديرا لنهجها في التكيف مع التغير المناخي وصون التنوع الحيوي، وذلك في الوقت الذي يستقبل المرصد ما يقارب عشرة آلاف زائر سنويا من مختلف أنحاء العالم، ليحظوا بتجربة استثنائية في مراقبة الطيور خلال رحلاتها المهاجرة.أحمد الرواشدة "الغد"