ما زال أبي، أطال الله في عمره، هو المعلم الأول في حياتي، والمرشد الذي لا تبهت كلماته مهما تغيّرت الأزمنة وتبدّلت الأحوال. في كل جلسةٍ معه، أجد نفسي أمام كتاب مفتوح يروي حكايات العمر وتجارب السنين، فتغدو كلماته وصايا حيّة تسكن القلب وتضيء الدرب.
الصبر زاد الطريق
أول ما يوصيني به أبي هو الصبر؛ ذلك المفتاح الذي يفتح أبواب المستحيل، والسلاح الذي يواجه به الإنسان تقلبات الأيام. كان يقول لي دائماً: "الصبر لا يعني الاستسلام، بل يعني أن تمتلك قلباً واسعاً يحتمل العثرات حتى تصل إلى الغاية." ومنه تعلمت أن الصبر ليس ضعفاً، بل قوة داخلية تهبنا القدرة على الثبات حين تشتد العواصف.
الحكمة في تغيير المفاهيم
من وصايا أبي أيضاً أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وأن العقول الحكيمة هي التي تدرك أن لكل زمانٍ مفاهيمه، ولكل مكانٍ ظروفه. كان يردد: "لا تُقاس الحياة بميزان واحد، فما كان نافعاً بالأمس قد لا يصلح اليوم، وما يصلح اليوم قد يتغير غداً." بهذه الكلمات علّمني أن التمسك بالأفكار دون وعي بالتغيرات قد يحرمنا من مواكبة الحياة، وأن المرونة هي عين الحكمة.
خبرة السنين
أبي ليس حكيم الكتب فقط، بل حكيم التجربة. من عرق جبينه، ومن قصص صبره على الشدائد، ومن نجاحاته بعد عثراته، تعلمت أن الخبرة ليست في ما يُقال، بل فيما يُعاش. خبرته كانت ولا تزال مرآة أرى فيها دروسي القادمة، فهو يلخص الحياة في جملة قصيرة: "التجربة خير أستاذ، لكنها لا تُفهم إلا بقلبٍ صابر وعقلٍ منفتح."
وصايا أبي الحاضر بيننا ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي دستور داخلي أستند إليه كلما تاهت بي الطرق. فيها مزيج من الصبر العميق، والحكمة المتجددة، والخبرة الصافية. ومن يدرك قيمة هذه الوصايا، كأنما امتلك نبعاً لا ينضب من الطمأنينة والقوة.